البرادعى.. لا يفيد ولا يخلو من السياسة
يتساءل البرادعى فى واحدة من تغريداته الأخيرة: «فى ضوء ما يحدث من تهويد مستمر للقدس، أليس من المنطقى بل من الواجب أن يقوم العرب والمسلمون بزيارة القدس بأكبر أعداد ممكنة لتأكيد هويتها العربية ومكانتها الإسلامية والتضامن مع أهلها، ولنظهر للعالم بأسلوب عملى ماذا تعنى بالنسبة لنا؟ هل من الممكن ولو مرة أن نفكر خارج الصندوق؟».
إذن حسبما يرى البرادعى، فإن العالم لن يعرف قيمة القدس بالنسبة لنا إلا إذا قمنا بزيارتها؟!، والزيارة إذن تعبير عن التضامن لدى البرادعى، المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية الذى جرى غزو العراق وهو يعلم بحكم منصبه أنه ليس بالعراق أسلحة دمار ولم يفتح فمه بكلمة. هو ذاته البرادعى الذى لم يجد حلًا لتطور مصر إلا بالمصالحة مع الإخوان، أعتى فصيل سياسى يعادى التقدم. البرادعى الذى لا يكف عن الظهور ولا يكف عن التراجع، يطل ليختفى ويختفى ليطل، ويخوض المعارك من بعيد لينسحب منها، وباختصار فإنه لا يفيد لكنه لا يخلو من السياسة. لا يرى البرادعى - مثل جميع دعاة التطبيع الكبار - وسيلة للتضامن مع فلسطين سوى بزيارتها، وكأن فلسطين خالتنا أو عمتنا المتوعكة التى تحتاج إلى زيارة وكلمة عطف، وليس أنها قضية تحرر شعب من احتلال استيطانى، وسطوة قاعدة عسكرية للاستعمار غرزت فى المنطقة. يتساءل البرادعى: «هل من الممكن أن نفكر ولو مرة من خارج الصندوق؟»، متصورا أن دعوته للتطبيع هى تفكير من خارج الصندوق، مع أنها دعوة من قعر الصندوق سبقه إليها رواد التطبيع على سالم وجورج البهجورى وسعدالدين إبراهيم وغيرهم، فهل القدس وفلسطين بحاجة للتضامن العاطفى الذى لا يغنى ولا يسمن من جوع؟، إنه تضامن يرسخ الاعتراف بالقاعدة العسكرية الإسرائيلية عبر التعامل مع مؤسساتها والحصول على تأشيراتها. لا يقدم لنا البرادعى إلا فتات الطعام الفاسد من قعر الصندوق وليس من خارجه. إن ما تحتاجه قضية تحرر شعب من الاستعمار ليس الزيارات، بل حصار الاحتلال ومؤسساته ومقاطعتها وتنوير المجتمع الدولى بحقيقة الكيان الصهيونى وبذل الدعم المالى والعسكرى والأدبى للشعب الفلسطينى. هذا هو «التضامن» الذى سيؤكد هوية القدس، أما الزيارات فتؤكد هوية الاحتلال.
يتطوع البرادعى بطرح اقتراحه ذلك فى الوقت الذى تخرج فيه علينا «جيرترود سنجا» مديرة المسرح القومى النرويجى بشريط مرئى عنوانه «اعتذار»، تقول فيه: «إنه ليوم عظيم ذلك اليوم الذى اعتذرنا فيه علنًا عن عار التعاون مع المسرح الإسرائيلى المسمى «هابيما»!، إننا لم نكن نعرف حين وافقنا على التعاون قبل عامين بالدور الضخم الذى تقوم به فرقة «هابيما» المسرحية الإسرائيلية ولا المؤسسات الفنية فى تشريع الاحتلال الإسرائيلى.. لم نكن نعرف أن الفن أداة مهمة تروج بها إسرائيل صورتها كدولة إنسانية، لا دولة فصل عنصرى كما هى على أرض الواقع. لم نكن نعلم ذلك لأننا لم نبحث ولا مرة واحدة.. لم نعرف لأننا فى الحقيقة لم نكلف أنفسنا عناء المعرفة، كيف كنا عميانا إلى هذه الدرجة؟!.
ففى الوقت الذى كنا نتعاون فيه مع المسارح الإسرائيلية، كانت إسرائيل تشن حربها على غزة.. وحينما قتل خمسمائة طفل فلسطينى كانت فرقة «هابيما» تُرفه عن الجنود الإسرائيليين.. ويصور البعض الأمر كما لو أنه صراع يدور بين أطراف متساوية، كل ما يلزمه حوار لكى تزول الكراهية!، إلا أنه صراع استعمارى قائم على التطهير العرقى والعنصرية والاحتلال والفصل العنصرى. بالتأكيد لم نكن نعلم. نحن آسفون جدا لهذا ونشعر بالخيبة العميقة». وقررت فرقة المسرح القومى النرويجى، التبرع بخمسين بالمائة من رواتبها لصالح المسرح الفلسطينى!. تقول مديرة المسرح القومى النرويجى إن قضية الشعب الفلسطينى ليست قضية كراهية أو حواجز نفسية، لكنها قضية صراع بين شعب واستعمار.
أما البرادعى فإنه مشغول بموضوع آخر، بتسهيل التطبيع وتسهيل القبول بوجود قاعدة عسكرية لا تملك سواها سلاحا نوويا فى المنطقة، قاعدة تدعى أنها دولة لكنها لا تعلن عن حدودها كدولة إلى الآن، ولا تنى تردد «من الفرات إلى النيل». لقد لاقى مصطلح التطبيع منذ بروزه فى سياق عملية كامب ديفيد ١٩٧٩ مقاومة شعبية وتصدت له مواثيق النقابات، وأقلام الكُتّاب، وليست الزيارات التى يدعو إليها البرادعى بوابة التطبيع الوحيدة أو الأخيرة، فالتطبيع أيضا هو كل ما يشوّه جوهر القضية الفلسطينية، وينقلها من خانة تحرر شعب إلى خانة اللاجئين، وينقل إسرائيل من خانة «قاعدة عسكرية للاحتلال» إلى دولة فصل عنصرى، وهو كل ما يروج لفكرة السلام بينما تشن إسرائيل حروبها دون توقف، وهو كل ما يحرف اتجاه الصراع إلى صراع ناجم عن عدم فهم «الآخر»، أو صراع حضارى. لكن ذهن البرادعى لم يتفتق إلا عن حكاية الزيارات، وهى حكاية قديمة قوى، وبهذا يثبت البرادعى مجددا أنه لا يفيد ولكن لا يخلو من السياسة.