تغيّر قواعد الاشتباك العسكرى والسياسى أمام إسرائيل فى سوريا
استيقظ سكان شمال إسرائيل صباح السبت الماضى، على أصوات انفجارات وصافرات الإنذار، ووُجهت تحذيرات من هجمات صاروخية قد تطال شمال إسرائيل. وقبل ظهيرة نفس اليوم؛ كانت إسرائيل تعلن عن سقوط إحدى مقاتلاتها من طراز «F16»، وإصابة مقاتلة أخرى من طراز «F15». جاء ذلك بعد سنوات ظل المجال الجوى السورى فيها مفتوحًا لسلاح الجو الإسرائيلى كى ينفذ ضربات متنوعة، اعترف ببعضها وتفاخر بالكثير منها، وحدد فى أغلبها الأهداف التى كان يقوم بقصفها من الجو.
منظومة الدفاع الجوى السورى روسية الصنع، هى التى قامت بعملية التصدى للهجوم الجوى الإسرائيلى، حيث تمكنت من إيقاع الإصابات بالطائرات أمريكية الصنع فائقة القدرات، المخصصة حصريًا للجيش الإسرائيلى. هذه الواقعة لا مسمى لها سوى تشكيل معادلة ردع جديدة على الساحة السورية. وتتأكد تلك المعادلة فى حال أضفنا لها واقعتين، ففى ٩ يناير ٢٠١٨ أسقطت قوات الدفاع الجوى السورى صاروخين أطلقهما الطيران الإسرائيلى تجاه مواقع عسكرية ومعسكرات للتدريب فى ريف دمشق. وقبلها فى أكتوبر ٢٠١٧ تصدت وحدات الدفاع الجوى لطائرة إسرائيلية اخترقت الأجواء السورية من جهة الحدود اللبنانية فى بعلبك، وأطلقت تجاهها صاروخًا من طراز «S ٢٠٠» تمكن من إصابتها، وهو ما أجبر الطائرة على التراجع. نفت إسرائيل الواقعة الأخيرة، وجاء بيانها الرسمى يرجع الأمر لاصطدام المقاتلة بطائر، لكن تأكد من الجانب الروسى رسميًا، أن منظومة «S ٢٠٠» المملوكة لسوريا تمكنت من إسقاط المقاتلة الإسرائيلية متعددة المهام«F ٣٥»، التى تعد الأكثر تطورًا فى الأسطول الجوى الإسرائيلى.
واقعة الاشتباك الجوى الأحدث، دفعت المجال المشترك السورى الإسرائيلى إلى منطقة، وصفتها إسرائيل بأنها أكبر من مواجهة وأقل من حرب. وهو مربع يضع سوريا بكاملها أمام أوضاع قتال جديدة، قبل أن يضيق مساحات الحركة أمام إسرائيل، التى لديها لائحة ذرائع طويلة تروجها دوليًا، ولدى الأطراف الفاعلة على الساحة السورية. على الأقل هى تضع قضية التواجد العسكرى الإيرانى ووحدات مقاتلى «حزب الله» وأسلحته المتطورة، فى صلب قواعد الاشتباك التى تمنحها من وجهة النظر الإسرائيلية الحق فى ملاحقتهما. وبالاعتبارات الواقعية؛ هذا خلط شديد ما بين قواعد الاشتباك العسكرى ونظيره السياسى، إذا كنا إزاء حضور السيادة السورية على أراضيها وعلاقاتها السياسية، التى لن يكون من السهل خضوعها للمتطلبات الإسرائيلية.
بالعودة للسبت الماضى؛ هناك رواية إسرائيلية لما جرى، تتحدث عن رصد الاستخبارات الإسرائيلية لانطلاق طائرة إيرانية مسيرة «درونز»، من «قاعدة تيفور» الجوية بالقرب من تدمر فى سوريا. وقد تعقبتها حتى اقترابها من الحدود الإسرائيلية، وهناك كانت بانتظارها مجموعة من طائرات الأباتشى الهجومية التى سارعت لإسقاطها. وتكمل إسرائيل حيث تؤكد أن التحرك الإيرانى لم يكن مفاجئًا، ولذا كانت القوات الجوية الإسرائيلية مستعدة برد سريع، تم بواسطة الهجوم على قاعدة إيرانية. فضلًا عن تدمير «عربة القيادة والتحكم» التى أرسلت «الدرونز»، وحسب ذات الرواية الإسرائيلية شبه الرسمية، تمت الهجمات باستخدام أسلحة مواجهة متطورة، لم تكن تتطلب دخول طائرات إسرائيلية إلى سوريا. ومن ثم أطلق السوريون عددًا غير مسبوق من الصواريخ المضادة للطائرات ضد مقاتلة إسرائيلية، فسقطت الطائرة «F ١٦».
ردة الفعل الإسرائيلى تمثل من خلال تنفيذ عمل هجومى طال «١٢ هدفًا»، من ضمنها «٤ أهداف» إيرانية، وما لا يقل عن «أربعة مرابض صواريخ» سورية. دمر الهجوم جميع المواقع التى أطلقت النار على الطائرة الإسرائيلية، حسب الرواية والمصادر الإسرائيلية، حيث اعتبر ذلك أكبر وأنجح هجوم ضد نظام صاروخى فى سوريا، منذ حرب لبنان ١٩٨٢. لكن ذات الرواية لم تغفل أيضًا أن هناك أشياء كثيرة قد تغيرت أمامها، فالإيرانيون استطاعوا إرسال «درونز» نحو إسرائيل مباشرة من سوريا. وليس معروفًا بعد إن كانت الطائرة المسيرة فى مهمة هجومية، أم مجرد مهمة استخباراتية.
طبيعة المهمة ربما ستظل ليست ذات أهمية، بالنظر إلى الجانب الآخر من الفعل العسكرى، وهو اتخاذ الإيرانيين قرارًا استراتيجيًا بمواجهة إسرائيل بصورة مباشرة، وذلك فى حد ذاته تطور كبير. ففى الوقت الذى تؤكد وتلح إسرائيل فيه على أنها لن تسمح للإيرانيين بإنشاء قواعد متقدمة فى سوريا. ترددت رواية أخرى بقوة داخل إسرائيل تتحدث على أن الأمر برمته «كمين إيرانى»، لعبت فيه سوريا دور الدفاع الجوى، لكن استدراج الطيران الإسرائيلى يظل من خلال أدوار لعب فيها «حزب الله» مع العسكريين الإيرانيين الدور الأخطر.
يبقى أن الاشتباكات الأخيرة بين إسرائيل وسوريا تكشف عن تغير معادلات توازن القوى فى سوريا، فمن الواضح تمكن نظام الأسد وإيران و«حزب الله» من استغلال تعقيدات الصراع السورى فى تطوير قدراتهم العسكرية، واستثمار التواجد العسكرى الروسى طويل الأمد فى سوريا فى إعادة تنظيم وانتشار منصات الدفاع الجوى وشبكات الرادار ونظم الإنذار المبكر، لتغطى أجواء المناطق التى يسيطر عليها النظام السورى. ويعمل الآن نظام الأسد علىالإسراع بتثبيت استعادة قطاعات واسعة من الأراضى السورية، من أجل تعزيز الانتشار العسكرى وإعادة بناء شبكة الدفاع الجوى فيها. وهنا نلحظ تكرار تحذيرات المسئولين السوريين خلال الشهرين الماضيين من أن منظومات الدفاع الجوى لدى دمشق باتت قادرة على حماية الأجواء السورية من اختراقات دول الجوار. وهنا قد يتبادر إلى الذهن أنها كانت حينها موجهة إلى تركيا قبيل توغلها فى الشمال السورى، لكن الأحداث تأخذنا اليوم جنوبًا وتضع طرفًا جديدًا داخل نطاق تلك الجاهزية، وهى إسرائيل التى ستبدأ من اليوم صياغة معادلات اشتباك جديدة، لن تقتصر على سوريا بل ستشمل إجابات عن المدى الذى ستصل إليه مع طهران و«حزب الله».