طبق الأصل.. من وقائع معركة تحرير درنة من الإرهاب
البداية أو بمعنى أدق اللمسات الأخيرة - شهدها الاجتماع العسكرى الذى فرض عليه أكبر قدر من السرية فى حينه. الخميس الماضى وفى مقر غرفة العمليات الفرعية بـ«قاعدة الأبرق الجوية» جنوب مدينة بنغازى، اجتمع المشير خليفة حفتر القائد الأعلى للجيش الوطنى الليبى، مع عدد من القادة العسكريين رفيعى المستوى: رئيس الأركان العامة عبدالرازق الناظورى، ورئيس الأركان الجوية صقر الجروشى، ورئيس هيئة التنظيم والإدارة كمال الجبالى، بالإضافة إلى آمر غرفة عمليات الكرامة اللواء عبدالسلام الحاسى، وآمر غرفة عمليات عمر المختار اللواء سالم الرفادى، وآمر القوات الخاصة اللواء ونيس بوخمادة. ولاحقًا بعد دراسة وتصديق القادة العسكريين على ملامح «عملية تحرير درنة»، تم استدعاء ضباط العمليات الرئيسيين المشاركين فى العملية، لتلقى التعليمات النهائية ومحددات التحرك لتنفيذ العمل العسكرى والأمنى المزدوج فى المدينة الأخطر بالشرق الليبى.
الجهد العسكرى الرئيسى أسند إلى «الكتيبة ١٠٦ مشاة» بمعاونة «السرية الثالثة التابعة للكتيبة ٣٢١ مدفعية ذاتية الحركة». ولذلك وصلت السبت الماضى تجهيزات عسكرية ضخمة ونوعية، لقيادة كتيبة المشاة وسرية المدفعية، حيث بدأت الأخيرة مساء الأحد عملية قصف مركز «افتتاحى» مزدوج، من محورين رئيسيين شملا مدخل المدينة الغربى، ومواقع التنظيمات الإرهابية فى محور «الظهر الأحمر» الجنوبى. ما أجبر عناصر التنظيمات المسلحة على التقهقر سريعًا إلى الداخل، حيث رصدت مبكرًا بالمحورين وقوع إصابات مباشرة ودقيقة لمواقع تحصن الإرهابيين. كما تنفذ وحدات أخرى عمليات «تطويق» من الجنوب، لتحرم التنظيمات من شريان الدعم اللوجستى الذى تعتمد عليه.
مجموعة «عمليات عمر المختار» أخذت على عاتقها ـ حسب الخطة العامة ـ طوال يومى الإثنين والثلاثاء، التواصل مع أهالى ومشايخ مدينة «درنة» وضواحيها، لإيصال رسائل «القيادة العامة» للجيش لهم بضرورة مغادرة الأماكن القريبة المتاخمة لتواجد التنظيمات الإرهابية، وكيفية تأمين تحركهم لتفادى وقوع خسائر بشرية أو إصابتهم جراء الاشتباكات المسلحة. ونفذت عناصر الجيش الليبى بعضًا من الإخلاءات الناجحة، قبل الدخول إلى المراحل التالية لاستعادة وتحرير المدينة من سيطرة التنظيمات الإرهابية، لكن تظل معادلة السكان المحليين، هى أحد أهم وأخطر تعقيدات العمل العسكرى الذى ستواجهه القوات الليبية، وقد تساهم بشكل كبير فى إبطاء الإيقاع الزمنى لها.
مدينة «درنة» التى تقع فى أقصى الشمال الشرقى الليبى تعد فعليًا منذ العام ٢٠١٤م مصدر التهديد الرئيسى للشرق الليبى بأكمله. فضلًا عن إدارتها محاولات التسلل عبر الشريط الحدودى الغربى لمصر، يأتى ذلك بسبب سيطرة التنظيم الأكبر «مجلس شورى مجاهدى درنة» على المدينة، منذ انطلاق «عملية الكرامة» فى بنغازى فى نفس العام، وبدء تحرك «الجيش الليبى» لمواجهة كل التنظيمات الإرهابية، التى ظلت تحت سطوة امتلاكها قدرات متقدمة من السلاح، تتوزع على معظم البلدان والمناطق الرئيسية فى ليبيا بأكملها. النجاحات وانتصار قوات الجيش الليبى فى العديد من مناطق الشرق والوسط والجنوب الليبى، دفعت التنظيمات الإرهابية إلى التمركز فى «درنة» والتمترس داخل طبيعتها الجغرافية الوعرة والنموذجية فى آن. فالمدينة التى تقع على ساحل المتوسط بمنافذ بحرية تؤمن لها الإمدادات من الخارج، عبر مرافئ غير شرعية، لها أيضًا طبيعة جبلية حيث تمتد فى جنوبها سلسلة من تلال «الجبل الأخضر»، تمكن العناصر القيادية للتنظيمات من التحصن بشكل آمن فى الكهوف والدروب الجبلية، كما توفر لهم حرية الحركة فى مناطق قادرة على كشف بانورامى لمحيط المدينة. فضلًا عن «وادى درنة» الذى يقسم المدينة إلى شطرين عبر مجرى فسيح للوادى، الذى يعد أحد الأودية الكبيرة المعروفة فى ليبيا، ليكتمل بتلك الطبيعة الجغرافية الشكل المعقد، الذى جعل المدينة بالفعل تبدو نموذجية لتحصن هذا العدد الكبير من التنظيمات المسلحة.
فتنظيم «مجلس شورى مجاهدى درنة» أسس فى العام ٢٠١٤م على يد «سالم الدربى» القيادى التاريخى بالجماعة الليبية المقاتلة. وهو التنظيم الذى سيطر على المدينة بقوة السلاح وسطوة العناصر المدربة، وتم تقديمه عبر الكثير من الخداع الإعلامى الموالى لإخوان ليبيا، باعتباره تنظيما ثوريا يقاتل «داعش»، رغم أن الدربى المنتمى للقاعدة، نكص عن توبته التى أعلنها فى ٢٠٠٦م فور اندلاع أحداث فبراير ٢٠١١م، ليعود للعمل المسلح بتأسيس «كتيبة شهداء أبوسليم»، ويضم لها عناصر من «كتيبة البتار» التى كانت تقاتل فى سوريا عام ٢٠١٢م. ولم تكن حرب الفرع القاعدى من خلال تنظيم «شورى درنة» مع «داعش»، والذى أسفر عن مقتل الدربى، سوى صراع بين تنظيمين على السلطة والموارد المالية بدرنة.
القيادة التاريخية الإرهابية الأخرى التى ساهمت فى تحويل المدينة الليبية إلى «خزان بشرى» مسلح، هى القيادى «سفيان بن قمو» الذى عرف بعلاقته الوثيقة بأسامة بن لادن، وكان قد سجن لفترة طويلة بمعتقل «جوانتنامو» قبل أن تسلمه الولايات المتحدة إلى السلطات الليبية عام ٢٠٠٦م، ليودع فى «سجن أبوسليم» ليفر منه لاحقًا، فى حالة الانهيار الأمنى التى صاحبت أحداث فبراير ٢٠١١م. وسريعًا يستعيد حضوره فى مدينته «درنة»، ليتحول فى البداية إلى منظر لتنظيم «أنصار الشريعة» أخطر وأكبر التنظيمات الإرهابية فى الشرق الليبى. قيادات التنظيم الشابة- مثل «محمد الزهاوى» و«أبوخالد المدنى»- ساهمت فى تحول التنظيم الكبير إلى الولاء الداعشى، وتمكنت من الامتداد به من درنة إلى بنغازى وسرت، وبدأ التنظيم فعليًا فى تدريب وتأهيل العناصر التى تدفقت من ليبيا إلى جبهة القتال السورية، حتى بدأ مع العام ٢٠١٤م يتكبد الخسائر فى «عملية الكرامة» على يد قوات الجيش الليبى. ليعود وينحسر إلى داخل درنة، قبل أن يعلن بيان حل نفسه كتنظيم إرهابى، وهو البيان الذى أثار لغطًا كبيرًا حينها بالنظر إلى مصير عناصره التى انضم بعضها إلى «مجلس شورى درنة»، وآخرين التحقوا بتنظيمات صغيرة ظلت على ولائها لداعش.
المكون القاعدى الثالث الذى يتحصن فى «درنة» أيضًا، هو «تنظيم المرابطون» بقيادته المصرية الشهيرة المدعو «هشام عشماوى». الذى يمتلك علاقات وثيقة وواسعة مع كل التنظيمات الليبية، منذ تأسيسها عام ٢٠١١م، وعاصر معظم تحولاتها القاعدية والداعشية وصولًا إلى انتماءاتها المناطقية فى النهاية. «تنظيم المرابطون» خليط من العناصر المصرية والليبية وأصحاب الجنسيات الأخرى، ويضع هدفه الرئيسى فى تصدير الخلايا والسرايا الإرهابية المسلحة، لاختراق الحدود الغربية المصرية ومحاولة نقل العمل داخل الأراضى المصرية. لكن فى النهاية التنظيم لديه اهتمام رئيسى وتحالفات ستدفعه للانخراط فى صفوف التنظيمات الليبية من أجل الدفاع عن وضع مدينة «درنة»، بكل الإمكانيات التى يمتلكها فى تنفيذ هذا الأمر.
فى النهاية يتقدم الجيش الليبى لخوض معركة عسكرية وأمنية ليست بالسهلة على الإطلاق، ولن تكون نزهة عسكرية حيث يكتنفها قدر واسع من التعقيد الجغرافى، وقوة الخصوم الذين سيتحالفون على الفور ليشكلوا معادلة مقاومة شرسة فى مقابل هجوم الجيش الليبى. حيث تبدو «القيادة العامة» وقد حسمت أمرها هذه المرة من أجل تحرير وتطهير تلك المنطقة الاستراتيجية، التى تهدد النجاحات التى تحققت قبلًا، خاصة مع بداية تحرك العناصر المسلحة من «درنة» على مسارات عرضية فى الوسط الليبى، البعض منها فى اتجاه الحدود المصرية، والآخر يحاول تهديد «المثلث النفطى» من الجنوب مرة أخرى. وهذا العمل بهذه المعادلات المتشابكة يستلزم جهدا استخباراتيا عسكريا، عملت عليه الأجهزة الليبية وتلقت فيه مساعدات ثمينة من جهات عدة، كى تتقدم لتنجز مهام عسكرية تقلق فى المقابل جهات وأطراف دولية ومحلية، تريد لها طوال الوقت ألا تتم بأى صورة من الصور.
هذا المشهد استدعى رفع درجة الاستعدادات القصوى، بالمنطقة الغربية العسكرية المصرية، فهى تتابع تلك العملية عن كثب وتتحسب لأى تداعيات أو محاولات اختراق، بالجدية التى يستلزمها الاستنفار فى درجته اللافتة، التى لم تُجر على هذا النحو المعلن منذ فترة. والحقيقة أن القوات المسلحة المصرية ليست وحدها فى هذا الإطار، فهناك العديد من أوجه الرقابة المختلفة لتلك العملية العسكرية من أطراف أخرى، ربما إيطاليا وفرنسا على سبيل المثال حاضرتان بصورة أو بأخرى، كما أنه ليس شرطًا أن يقتصر عملهما لصالحهما فقط، فمن الممكن أن يتقاسما ما يقومان به، لصالح أطراف لا تريد ـ على الأقل ـ فى هذه المرحلة أن تظهر فى مسرح الأحداث، لكنها تدرك تماما أهمية تلك الخطوة العسكرية على معادلة الأمن الليبى، وقبلها على موازين المسار السياسى الذى يترقب هو الآخر.