يوميات السندريلا فى القصر «3-3»
كشفت الإقامة بالقصر الملكى لسندريلا عشرات الحقائق.. الحقائق المتعددة الأوجه التى هى كلها حقيقة لشىء واحد.. لم تستوعب وهى الفتاة البسيطة التى قضت عمرها دون أن تشعر بتناقض بين كونها ابنة صاحب القصر وكونها الخادمة التى تقوم بكل المهام- كيف تكون هناك وجوه كثيرة لحقيقة واحدة.
فسندريلا عندما كانت تقوم بالمهام المنزلية وأعمال الحديقة والتسوق كانت تقوم بذلك من منطق أنها فتاة مسئولة عن عائلتها، تعاون وتساند أخواتها غير الشقيقات فيما لا يستطعن القيام به، فسوء معاملة زوجة الأب وبناتها لم يسحق روح سندريلا أو يشعرها بأنها أدنى منزلة، فهى تدرك فى أعماقها حقيقة صورتها ولم يكن لديها من الوقت ما يسمح لها بكثرة التطلع والالتفات للمرايا الخارجية التى حتما ستظهر تناقضًا صارخًا بين كينونة الشابة الوارثة وصيرورة الخادمة. ربما تكون المرايا الكثيرة المتجاورة والمتوازية على جدران القصر، وفى بعض الممرات، هى من ساعدتها على استيعاب أو التفكير أو الانتباه لهذه التعددية، لهذا التجاور المنقسم المتشظى لأجزاء الكل، عندما تنظر لنفسها تجد عدة صور تتداخل، فى إحداها طويلة وفى الأخرى سمينة، وجهها مدور، ممطوط، ما هذه الحيل؟ لماذا يبدو قلم الرصاص الموضوع فى كأس من الماء منكسرًا.. تراه قطعتين.. لا قطعة واحدة متماسكة؟.
سألت حكيم القصر، أجابها: الحقيقة غامضة وملتبسة.
وماذا عما نعرفه؟ عن رأينا فى العالم فى الأشياء؟
- أميرتى الرأى هو أول عائق عليك تخطيه للوصول للحقيقة.
نظرت له سندريلا بدهشة، لكن الحكيم لم يشفق على حيرتها وعاجلها:
- سأقول لك ما قد يثير دهشتك أكثر: الرأى دائمًا مخطئ.
- وكيف أعرف الصواب من الخطأ؟
- الشىء يُقيم من خلال تبعاته.
- إذًا كل شىء تكون تبعاته جيدة فهو شىء جيد.
- حتى هذا أمر غير مطلق، فالجيد جيد بالنسبة لمن؟، هل يمكنك الحكم أيهما أفضل: الشابة التى تهب نفسها للدير وتصبح راهبة؟ أم الأم التى تهب حياتها ووقتها لأطفالها؟ أيهما أعلى قيمة فى نظرك؟
- الأعلى قيمة ما يحقق الصالح العام.. صالح الشعب، صالح أكبر عدد من الناس.
- كل هذه الكلمات أيضًا نسبية وتقود لمزيد من التساؤل، لكن لا أستطيع أن أنكر أنها مهمة، لأن السؤال يقود إلى المعرفة.
- وإذا لم يكن هناك سؤال؟
- لن تكون هناك معرفة، لا شىء يحدث تلقائيًا.
كانت قد قرأت فى كتاب مادة الفلسفة للصف الثالث الثانوى:
«إذا كان سطح البحر جميلًا وخلابًا ورائعًا فإن الغوص إلى باطنه وقاعه يتيح لنا فرصة أجمل وأكثر روعة، ففى أعماقه الكنوز والجواهر واللآلئ الثمينة».. لكنها الآن تتساءل: وماذا عن الحيتان وأسماك القرش والعمق الأسود حيث لا ضوء، فقط الظلمة، ربما كان على مؤلفى الكتاب القول: الغوص بمقدار وعمق معين. ليس كل ما نتعلمه صحيحًا تمامًا فالمعرفة ليست دائمة جاهزة أو نهائية.
إجابات الحكيم لم تجعل سندريلا تدرك الحقيقة، لكنها ألقت بها إلى شاطئ التساؤلات حيث الشك واللا يقين.
- وكان سؤالها المباغت لنفسها ما الذى تفعله فى هذا القصر؟.
حيث القواعد والدرجات والتراتبيات، وكانت هى بلا مسئوليات- حقيقية بالنسبة لها- فهناك مشرفون على كل شىء.. اختيار أنواع الطعام، صيانة أى أعطال بسيطة.. كهرباء.. مياه، تنسيق الحدائق.. لم يكن عليها سوى أن تكون أميرة، وأن تهتم فقط بحقيقة كونها أميرة، ولم تكن سندريلا تستطيع أن تسأل أيا من المحيطين بها: ماذا تعنى كلمة أميرة؟ ماذا تفعل الأميرة؟. كانت تظن أن الأميرة عليها العبء الأكبر فهى مسئولة مع الأمير بعد الملك عن خدمة الشعب، هذه كانت الحقيقة التى تعرفها.
لماذا جئت لهذا القصر؟ أم أن الأولى أن أسأل كيف جئت إلى القصر؟، الساحرة، ثمرة القرع العسلى، الفئران، من يصدقها.. هل يمكن لأحدهم أن يطلب منها أن توضح كيفية حضورها الحفل بعد أن أغلقت زوجة أبيها عليها ومزقت الفستان الذى صنعته.
توجهت للأمير، أدركت أن عليها أن تخبره بالحقيقة التى تعرفها ويجهلها هو وكل المحيطين به:
- سمو الأمير أريد أن أعترف لك بشىء، لقد ساعدتنى جنية كى أستطيع حضور الحفل الراقص، و...
لم يفاجأ الأمير، بل ابتسم ومد لها يده:
- سندريلا، وهل تعتقدين أن أحدًا يستطيع أن يأتى دون مساعدة خارجية، هل تعلمين كيف تتأسس ممالك السماء أو الأرض؟ بما يحكى من أساطير.. ملك ترضعه ذئبة.. ملك يولد بدون أب، ملك تجمع زوجته أشلاءه ويعود للحياة، و... و...
- أنت تعرف كيف جئت، فهل تعرف لماذا؟.
- جئتِ كى تكونى أرضى، عصاى التى أتكئ عليها، جئتِ كى تمنحينى اسمًا، فقد مللت طوال دهور طويلة والكبار والصغار يرددون سندريلا والأمير، دون أن يتساءل أحدهم عن اسمى.. أو يفكر فى أن يمنحنى أبسط حق لإنسان (اسمه).
ابتسمت سندريلا: الآن أخمن لماذا اخترتنى.
- نعم.. لأنك وحدك دون كل المدعوات من سألتنى عن اسمى.