«البائع المتجول».. المغني الأوبرالي في شوارع القاهرة
دائمًا ما يكون التراث هو سلاح وذخائر الشعوب، وكتابًا راصدًا لعاداتهم وتقاليدهم المختلفة، والذي يأتي في صورة أمثال أو أغاني أو مواويل أو غير ذلك، بقيت على مر الزمن، ومات صاحبها، توارثتها الأجيال كأنها دستور شعبي متفق عليه.
كانت نداءات الباعة إحدى هذه الموروثات والتي جاءت في صورة كلمات تضمنت تشبيهات بديعة بألحان بسيطة وعبقرية، توراثتها الأجيال بنغمة ومخارج لا تتغير من بائع لبائع، ومن حارة لحارة ومن زمن لزمن، وكانت هذه النداءات البسيطة مصدر إلهام للكثير من الملحنين العظام، كما كانت هناك الكثير من الدعوات لتسجيل نداءات الباعة المتجولين.
من البلح الأمهات إلى المشمش.. تغنى الباعة لبضائعهم
لا يزال نداء الباعة الجوالة على بضاعتهم بالصوت الرخيم قائمًا لم يندثر، فإن كانت أيام البلح الأمهات يغني له البائع قائلًا: «ولا تين ولا عنب زيك».
والأصل في هذا النداء أن يغني البائع: «والله لا تين ولا عنب زيك يا جميز، يا بتاع العلبة يا عسل». نعم كان للجميز سطوة قبل أن يختفي وتقطع أشجاره ويحرم الناس من فاكهة شعبية رخيصة وحلوة ومفيدة.
البائع كان خياله المشتعل عمدته في لفت الأنظار، وكان هذا الخيال يوحي له بنداءات حافلة بالصور الفنية، فإذا كان موسم العنب راح البائع يغني له على النحو التالي: «والله سلامات م الغيبة يا عنب زي بيض اليمام وأبيض ياعنب».
فالعنب كان مسافرًا وعاد بعد أن أوحشتنا غيبته، وحباته ليست بالحجم المعروف بل هي في حجم بيض اليمام، وهي كذلك أكثر بياض من بيض اليمام.
وإذا كان الموسم موسم المشمش، راح البائع الفنان يغني له: «المشمش استوى وطاب وطلب الأكالة يا حموي يا ناعم» أو هكذا: الل«ه عليك ياللي الهوى هزك ورماك يا مشمش، وجعلك شربات يا حموي يا ناعم».
سيد درويش يطوف الشوارع خلف بائع متجول
مثل هذا الفنان صادفه ذات يوم فنان الشعب سيد درويش، فسار وراءه قاطعًا شارعًا شارعًا، وحارة حارة حتى اتصل بسر اللحن الجميل، الذي كان البائع يغني به على بضاعته، ولم يهدأ الشيخ سيد عن المتابعة من سجل في داخل نفسه الفنانة هذا اللحن واعمل فيه فنه هو، وقدمه من بعد في أغنياته الخالدة عن البياعين.
- يحيى حقي يكتشف عازف أعمى ويقدمه في حفلة رسمية
يذكر يحيى حقي في كتابة «ناس في الظل»، كيف كان راقدًا في حضن الليل الرحيم الوديع الممتليء بالأسرار، حين ارتفع إلى أذنه خلال العتمة والنسيم والهدوء صوت عفي رخيم معًا، ينشد بنغم حلو: «لا تين ولا عنب زيك يا رطب». قفز يحيى حقي من فراشه أو كاد وصاح: «يارب! هذا مستحيل، لا معقول، أن هذا الصوت بعينه بنطقه وجرسه ونبرته ولحنه ونغمته، بتتابع تموجاته، بين علو وانخفاض، بين مط وإدغام سمعته بالليل وأنا صغير في حجرة عالية السقف في بيت من حجر وعروق خشب، خمسون سنة وأكثر تمضي وهذا النداء هو هو باق، خالد، ليس لحنه وحسب بل يكاد يقول الكاتب وصوت الرجل أيضًا، كأنما ندبت مصر منذ وعيها رجلًا واحدا من أبنائها لبيع الرطب، وأجازت له وحده تناسخ روحه عمرًا بعد عمر».
ويفرق يحيى حقي بين نداءات باعة الملوخية والفاصوليا واللوبيا والباذنجان والبصل والثوم والكرات والترمس والجرجير والبطاطة والقوطة والنبق والتوت والجميز والمشمش والعنب والتين. وأن هذه هي حاصلة مصر الآلية من نداءات منقوشة على الحجر، أما المستحدثة منها الجوافة والمانجو والفراولة، فإنها لم تجد لها الملحن العبقري المجهول الذي يسلكها في الخالدين، فالنداءات عليها أشبه بصفحة مكتوبة بأسلوب تقريري وسط كتاب يتلألأ بأسلوب فني يصافح الشعر.
يلاحظ يحيى حقي أن الأجانب والأغراب وبخاصة منذ حملة نابليون، هم الذين اهتموا بتسجيل نداءات الباعة لفظًا ولحنًا، وشعر بالخجل حين استمع إلى الكثير من التسجيلات الفولكلورية في بيت «واحد خواجة» كان يقيم في مصر، وكان بين هذه التسجيلات دقة طبلة من عازف أعمى، إلى جانب نداءات الباعة، وقد بحث يحيى حقي عن هذا العازف الأعمى حتى وجده فأدخله بجلبابه وطاقيته إلى المسرح في إحدى الحفلات الرسمية، وزعم أنه هو الذي اكتشفه.
وطالب يحيى حقي كثيرًا بأن تسجل نداءات الباعة وأن ينظر إليها نظرة جادة حقًا، فهي في رأيه تقدم بالمجان وبغير عناء منا. ويتمنى أن يلحظها القائمون على الكونسرفاتوار ومعهد الموسيقى والإذاعة.
وذلك حسبما ذكر في كتاب «عن الكاريكاتير والأغاني والإذاعة» للدكتور علي الراعي، والذي يؤكد أنه رغم أن هذا الكلام مر عليه وقت طويل، كما تقلصت أصوات النداءات العذبة، إلا أنه يقرر من واقع تجربته أن بعض هذه الأصوات ما زال موجودا «في شارعنا رجل فخم الصوت يصلح للغناء الأوبرالي يبيع النعناع الأخضر، وينادي عليه بصوت مهيب (يا أبو الروايح يا نعناع). ثم يصمت قليلًا ويقول «بلدي»، ويؤكد الدكتور على الراعي أن دعوة يحيى حقي مازالت قابلة للاحتفاء والتنفيذ.