المرأة والسياسة وأم المرحوم خليل
يحل عيد المرأة العالمى فى ٨ مارس، وعيد المرأة المصرية فى ١٦ مارس. عيدان للمرأة يتخللان شهر الدعاية الانتخابية الرئاسية بمصر، لكن الدعاية والانتخابات ستمضى من غير امرأة تجد فى نفسها القوة والقدرة على خوض مغامرة الترشح لأعلى المناصب.
يعوق المرأة عن تلك المخاطرة، عوامل عديدة ثقافية واجتماعية وذاتية، فى مقدمتها إدراك المرأة، وربما شعورها، أن المجتمع العربى لا يتهاون مع فكرة أن تكون المرأة رئيسًا أو زعيمًا.
إنه مجتمع لا يجد بأسًا فى أن تصبح المرأة بطلة مثل جميلة بوحريد أو عهد التميمى، أو أن تمسى شهيدة مثل دلال المغربى. أما الرئاسة، مستحيل! وقد انقضى أكثر من سبعين عامًا على وقت كان بيرم التونسى يجد أنه مرغم على توعية المرأة بأصول التربية فى البيت، فخاطبها فى قصيدة «تدبير منزلى» مغتاظًا قائلًا: «ما تمضغيش للعيال الأكل بسنانك.. النفخ فى الأكل سم فى عرض إيمانك.. مرة جهولة حمارة خصلتك سودة.. ماتسمعيش الكلام تنشكى فى لسانك»! لكن تلك التى «تنشك فى لسانها» قد قطعت منذ ذلك الحين طريقًا طويلًا من التطور وانتزاع الحريات، فرأينا عام ١٩٣٣ لطيفة النادى أول قائدة طيارة مصرية وعربية، وثانى امرأة تقود طائرة فى العالم، وسميرة موسى أول عالمة ذرة، وحكمت أبوزيد أول وزيرة عام ١٩٦٢، ثم تهانى الجبالى أول قاضية مصرية عام ٢٠٠٣.
وبلغ عدد النائبات فى البرلمان الآن تسعين نائبة. ومع أن عدد النساء فى مصر يقارب الأربعين مليون نسمة، إلا أنهن ما زلن يخشين المزيد من الخطو إلى الأمام، ويشعرن بثقل العوائق الاجتماعية والفكرية، وفى مقدمتها الخطاب الدينى التقليدى، وبهذا الصدد كانت مشيخة الأزهر قد أكدت أنه لا يوجد مانع شرعى من تولى المرأة مناصب بعينها لكن المشيخة لم تشر بحرف إلى المناصب الكبرى، بل ما زالت المرأة مستبعدة من شغل منصب القاضى فى القضاء الجنائى، ومن العمل بمجلس الدولة. هناك أيضًا شعور المرأة بغياب الدعم والتأييد، وبأنه ليس الرجال وحدهم من سيتجاهلها، بل حتى بنات جنسها قد يقفن ضدها، ما دامت الغالبية العظمى منهن يرين أن الرجال هم الأكثر كفاءة فى إدارة الشئون العامة، وأن ميدان المرأة هو المنزل وتربية الأطفال. يلاحظ أيضًا أن النساء اللواتى تجرأن وأعلنّ عن نيتهن الترشح كن قليلات، ولعل الإعلامية بثينة كامل من أشهرهن، وهى التى رشحت نفسها عام ٢٠١١ لكنها لم تستطع استيفاء عدد التوكيلات اللازمة.
ولن تجد الآن فى ثالث انتخابات رئاسية بعد انتفاضة ٢٥ يناير ٢٠١١ امرأة واحدة يمكن النظر إلى ترشحها بجدية خارج إطار «الفرقعات الإعلامية» التى ترمى من ورائها صاحبتها إلى أن تغدو محط الأنظار وفى قلب الأضواء، هذا بالرغم من أن عام ٢٠١٦ قدم العديد من النماذج النسائية العنيدة مثل «تيريزا ماى» ثانى امرأة تشغل منصب رئيس الوزراء فى تاريخ بريطانيا بعد مارجريت تاتشر، وفى ألمانيا ما زالت «أنجيلا ميركل» تقود بلادها وتحظى باحترام دولى، هذا غير نساء أخريات. وسأتفق مع المرأة المصرية فى أن احتمالات نجاحها قليلة فى معركة شديدة الوطأة مثل الانتخابات الرئاسية، وذلك للأسباب الكثيرة السالفة الذكر. نعم.
لكن لا التطور ولا النجاح يتم بوثبة واحدة، ولا تفتح القلاع من أول طرقة. لكن مما لا شك فيه أن تاريخ المرأة كان سيتحرك ولو خطوة صغيرة للأمام مع شرف المحاولة، حين تمسك امرأة مصرية بمقبض الباب وتحاول فتحه، مرة تخفق، ثم مرة ثانية تنجح نصف نجاح، إلى أن تفتحه على مصراعيه. هذا أو نظل نرضى بوضع شجرة الدر التى تسلطنت على مصر ثلاثة شهور إلا أيامًا، وكان لها ولد توفى اسمه خليل، ولما كان من المستحيل أن ينادى على اسم امرأة فى الجوامع صار خطباء يقولون بعد الدعاء لخليفة المسلمين: «واحفظ اللهم ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجميل، والستر الجليل، والدة المرحوم خليل»! وكانت علامتها وختمها فى الأوراق الرسمية «والدة خليل».
ويقول ابن إياس فى ذلك: إنه لما بلغ الخليفة المستنصر بالله أبا جعفر وهو ببغداد أن أهل مصر قد سلطنوا امرأة أرسل لأمراء مصر يقول: «أعلمونا إن كان ما بقى عندكم فى مصر من الرجال من يصلح للسلطنة فنحن نرسل إليكم من يصلح لها»! فلما بلغت الرسالة شجرة الدر أدركت أنها لن تستطيع التصدى لتقاليد وفكر المجتمع، فخلعت نفسها من السلطنة برضاها. إذن، كانت المرأة حتى وهى سلطانة مجرد «أم المرحوم خليل»! لكن ذلك كان منذ أكثر من سبعة قرون، ولم يعد ينفع الآن أن تختبئ المرأة المصرية لا خلف أسماء أبنائها ولا زوجها ولا والدها، ولم يبق أمامها إلا أن تواصل السير على طريق تحرير نفسها إنسانًا له كامل الحقوق. هذه هى المرأة المصرية الجميلة التى طالما تطلّعنا دومًا إلى روحها المتوثبة بالصدق والنبل والعطاء.