بط أبيض صغير
من قبل كنت أتابع كل شىء، ثم توقفت عن متابعة أى شىء.. توقفت منذ شهور طويلة عن شراء الصحف، جميع الصحف، لم أعد أفتح التليفزيون، توقفت عن توقيع بيانات الاحتجاج السياسى، توقفت عن الكلام فيما يحدث حولنا، صرت أتسقط أخبار الأحداث المهمة من أفواه معارفى خلال المكالمات الهاتفية، أو اللقاءات التى تحدث بالمصادفة فى شوارع المدينة.. القصف اليومى لمدن فلسطين أحالها لشجرة عيد ميلاد تزينها بيوت صغيرة تتوهج نوافذها بالموت، وجعلنى أقول لنفسى لا شىء يتغير إلى الأحسن.. أحيانًا نادرة كان الأمل يتواثب وينقر شباكى، فأهمس لروحى أننى مخطئ، ولا بد أن ثمة ما يتحرك نحو الأحسن، لكن ما إن يبدأ القصف من جديد حتى يفر الأمل بجناحيه الرقيقين مذعورًا من الدوى والدخان الأسود.. يومًا بعد يوم توقفت عن متابعة أى شىء، لكننى بحكم العادة المتأصلة كنت أفتح التليفزيون من وقت لآخر، أكتفى بمشاهدة مقدمة نشرة الأخبار التى تستغرق نصف دقيقة، أشاهدها بروح عدائية مثل شخص يدافع عن نفسه ضد الأنباء السيئة، وخلال نصف الدقيقة تلك تتدفق نعوش الأطفال الفلسطينيين إلى الشاشة، مثل ماء رُفعت عنه السدود مرة واحدة، من شاشة التليفزيون إلى المنضدة وإلى أرض الصالة فى بيتى، نعوش صغيرة، تهرول نحوى مرفوعة على أكتاف ورءوس الآباء المحنية وتختبئ تحت الأرائك والمقاعد قبل أن تشن عليها غارة أخرى.. أغلق التليفزيون بسرعة وأندم أننى فتحته، لكن أكوام الأطفال التى تسربت من الشاشة تكون قد شغلت كل فراغ فى شقتى، يتطلعون إلىّ ببراءة وعتاب، برجاء أن أغفر لهم أنهم احتموا بمنزلى من غير استئذان، وشغلوا كل مساحة شاغرة بين قطع الأثاث فى الصالة وفى الردهة الممتدة نحو الحمام والمطبخ وفى غرفتى النوم والمكتب، أقف مكانى مرتبكًا، لا أدرى ماذا بوسعى عمله، يطمئن الأطفال فى قمصانهم الحمراء قليلًا، ويستريحون من الجحيم، يألفون المكان، ولا يغادرون شقتى، لأن الدنيا فى الخارج مرعبة، أنهض من مقعدى لأمضى إلى حجرة النوم فيتحركون فى أعقابى مثل سرب من البط الأبيض، يتعثرون ما بين قدمى برءوس مشجوجة، فوق كل رأس منها شريط معقود من قماش أبيض يربط الفك السفلى لكى لا يتدلى ساقطًا فى الهواء.
صفوف من البط الأبيض الصغير تسكن معى منذ شهور طويلة، وتتبعنى كأنما تخشى أن تفقدنى، تتنقل ورائى من حجرة لأخرى، تسارع بالتكدس حول قدمىّ فى المطبخ، وحين أهم بمغادرة المسكن يقف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة صفوفًا، يمط رقابه النحيلة الطويلة لأعلى، يتفحصنى بصمت، ينحرف برأسه قليلًا، ومنقاره السفلى مربوط بقطعة القماش إلى رأسه، يتطلع إلىّ، لا يدرى إن كنت سأعود إليه أم أننى سأتخلى عنه.
أرجع فى المساء، وقبل أن أفتح باب الشقة أسمع صوت اصطفاق الأجنحة وراء الباب، أفتح وأدخل بين خفق أجنحة البط الأبيض، وفى جو الصالة يضطرب الصياح، وتسبح عيون مغلقة، وكراسات، وأقلام، وصنادل صغيرة، أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرًا نحو حجرة المكتب، والصفوف تتدافع ورائى، أتوقف أمام مدخل الحجرة، وألوّح لها بيدى لكى ترجع، أريد أن أصيح فيها، لكنها تظل واقفة، صامتة، لا تحيد بعيونها عن وجهى وكتفى وصدرى.
فى الليل يملأ البط الأبيض كل موضع فى حجرة نومى، ينعس على صوان الملابس، وأعمدة الستارة، وحافة النافذة، وأطراف سريرى، فإذا حركتُ ذراعى أو تقلبت على جنبى ارتطمت به، أنظر إليه، فيحدق فىّ بصمت ورهبة وأمل.
منذ زمن يلازمنى شعور مضنٍ بأن علىّ أن أعيد تلك الكائنات البيضاء الصامتة إلى هيئتها الأولى، إلى بشراتها الغضة، وأمهاتها، ووقفاتها أمام فاترينات محلات الألعاب. أقول لنفسى علىّ بكل ما أوتيت من قوة أن أفك السحر الذى ربطها فى صورتها هذه، ولم أكن أدرى ما العمل.. أتجه كل يوم إلى عملى فى مكتب البريد، أملأ استمارات التحويلات المالية من مدينة لأخرى، وأسمع الناس يخاطبوننى كأن أصواتهم قادمة من تحت الماء، ودوى القنابل يطغى على كل شىء، لكننى أسد أذنىّ وقلبى بإحكام لكى لا أرتكب غلطة فى عملى، وأستمر فى توقيع الأوراق، وفى الظهيرة أغادر المكتب وأتجول فى الشوارع القريبة قبل أن أتجه لمنزلى.. أعود، أفتح الباب، وأنا أعلم مقدمًا ما ينتظرنى.. الأجنحة البيضاء التى تضرب فى الهواء، والريش الخفيف المتطاير فى الجو، وتلك النظرات، والمناقير المربوطة بقطع القماش.. يواتينى شعور بأننى لم أكن فى العمل، لكننى كنت أفر من كل هذا، مثل جندى تسلل من موقعه فى تل مشتعل إلى غابات بعيدة.. يعزينى البعض بأن الحياة مهما كان لا تتوقف، لكن لماذا أحس بهذه المرارة وأنا فى عملى؟ أو حين ألتقى بالأصدقاء القلائل؟ أو عندما أشرب كوب ماء وأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلىّ بنظرة مبهمة؟ أحدّق فيها هاتفًا: وهل أنا المذنب؟ هل أنا الذى يُلقى بالقنابل على الأطفال؟!
منذ زمن طويل توقفت عن متابعة كل ما يحدث.. كل ما يشغلنى الآن هو صفوف البط الأبيض التى تواصل نموها فى مسكنى، وتتخبط حولى، وتمنعنى من التنفس أو تناول الطعام براحتى.. الآن وقد حل منتصف الليل نهضتُ وربطتُ فكى السفلى بأعلى رأسى بقطعة قماش أبيض، ووقفت متجمدًا بين الصفوف البيضاء، ورفعتُ فى الضوء الباهت رقبتى النحيلة لأعلى، ومشيتُ معها فى الحجرات الفارغة، أحجل بصمت، على أمل أن تدق الباب علينا يد بشرية.