فى وداع «ديسمبر» ملك المخلوعين
كرجل عجوز يجمع «ديسمبر» متعلقاته، كل ما تبقى من أشيائه.. المدفأة التى اعتاد أن يشعلها كما يوجب عليه اسمه، حبات البطاطا، الكستناء، التى لم يكن له نصيب أن يأكل منها، بطانية منحته إياها سيدة ظنته متشردا وهو جالس على كورنيش «جاردن سيتى».
يتحرك «ديسمبر» فى صمت وبهدوء من يعرف أن أحدًا لن يستحلفه أن يبقى، فكل من فى البيت مشغول باستقبال الملك الجديد، الزينات المعلقة والشجرة المضاءة والهدايا ليست له.
بحكمة العجائز الذين امتحنوا الحياة وعرفوا نتيجتها يعرف «ديسمبر» أنه شهر سكون وكمون، وأنه ككل الملوك المخلوعين يحمل على كتفيه كل الأوزار.. كل الخطايا.. كل الخيبات الصغيرة والكبيرة، وأنه سيرحل وحيدا، المراسم والطلقات النارية للقادم الجديد، مات الملك.. عاش الملك.. وأن أحدا لا يحب البكاء ولا أحد يحب النهايات.. كلنا نريد بداية جديدة، قيامة جديدة، فرصة أخرى.
ديسمبر الشهر المشكوك فى حقيقة ترتيبه.. فهو يحتل المقعد الثانى عشر فى المائدة المستديرة للسنة، لكنه اسمه الرومانى يعنى العاشر فما الذى جاء به لطرف العالم؟. ولأنه يمتلك روحا مرحة تجعله يقاوم أى إحساس بالندم، أو الحزن أو الغضب فسيجد فى كل أحواله شيئا من العزاء، يكفيه أنه سيقضى أقصى ما استطاع البشر منحه للشهور من أيام؛ واحدًا وثلاثين يوما، أو ورقة، رغم أنه لا يحمل أبهة الشهور الامبراطورية (يوليو وأغسطس) التى أخذت كمال أيامها من سطوة الأباطرة الذين حملت أسماءهم.
ديسمبر رجل حكيم يكتنز بخبرة الذين يعرفون حقيقة النهايات، وكرجل عالم بعمق الأشياء فكثيرا ما يحتضن كتفيه ويضم نفسه لنفسه برفق، يقبل خصلات شعره الرمادية المنسدلة على خده الأيمن، يردد بصوته العميق: لا بأس. لا بأس. بينما تربت كفه المتغضنة على ظهره الأحدب.
قبل أن يخطو «ديسمبر» من عتبة «يانوس» حارس أبواب السماء، سيسمع صوتا يناديه:
- ديسمبر.. ديسمبر
لن يلتفت العجوز.. هو لا يقوى على النظر لكل ما خلفه، تخيفه التراكمات الحزينة والشهقات الموجعة، يتمنى لو أنه حمل شيئا مبهجا، لكن الفأر الأسود كان قد مر حاملا طاعونا لا يقاوم ولم يصل العلماء لشفاء له.
فقط سيتجمد العجوز فى مكانه، دون أن يصدق أن أحدا يمكنه أن يتذكره بحسنة، تقترب منه السيدة التى لم يلتفت ليراها لكنه يشعر بخطواتها، تضع ورقة فى يده اليسرى، تهمس فى أذنه:
- اقرأها متى شئت، سنلتقى ثانية وأكملها لك.
يقترب ديسمبر من عتبته، ما زال لديه بعض وقت، ممتنا لنعمة أن يتذكره أحد، يفتح الورقة، يقرأ ما بها:
«فى مدينة «إسبراريا» كانت الملائكة تسير فى الشوارع ببهائها السماوى، فيستحى التراب أن يرتفع لمقدمة حذاء طفل، وكانت أوراق الأشجار الجافة تتساقط فقط عندما يمر الكناسون ويلقون عليها تحية الصباح، أما الشمس فلم تكن تظهر إلا عندما تشعر أن أجساد الناس قد أخذت كفايتها من النوم وكان القمر يصير بدرا عندما يجد رجلا عائدا من عمله آخر الليل، ويمسى هلالا عندما تتشابك أيدى العشاق، وكان الماء لا يعرف طعم الكدر والكلاب تحفر بأناقة تحت الأشجار كى تقضى القطط حاجتها. وكان الأطفال يتعلمون أبجديات المحبة فى الحضانة، وكان كل رجل لامرأة، وكل امرأة لرجل. فى الليالى الصيفية كانت النجوم تنزل من سمائها وتلعب مع الصغار الاستغماية، وفى الشتاء كانت تدثر من لا مأوى له.
لم يكن هذا الجو الأثيرى فى «إسبراريا»، لم تكن هناك تصنيفات مثل فقير وغنى وأبيض وأسود، ولكن كلٌ ميسرٌ لما خلق له، وكانت سنابل القمح تعطى لصاحب الأرض حقه وللأجير حقه، وتترك بعضا من سنابلها لعابرى السبيل؛ بشر، حمائم، فئران. وإذا لم يأخذ أحدهم نصيبه من البقرة، أعطته له فى الغد جبنا، وكان الآباء يمنحون الأطفال محبة غير مشروطة بنسب، وكانت الأوقات تختزن للصغار حكمة تمنحهم إياها حين يقفون عند مفترق طرق، والدولة تمنح العجائز معاشا استثنائيا كى يتصدقن به».
طوى «ديسمبر» الورقة، أخرج من حقيبته بوصلته الذهبية، بحث عن الاتجاه المؤدى إلى «إسبراريا».. ابتسم وهو يؤكد: لا بـأس، لا بأس.