سقوط كارنيجي مساعدات المركز الأمريكي للإرهابيين في سيناء
منذ بداية عملى الصحفى، لا تبهرنى الأسماء، ولا الجنسيات، بقدر ما ينصب تركيزى على تحليل المعلومات الواردة فى أى خبر، أو تقرير، أو حتى مقال رأى، أو كتاب، ووضعها على محك المصداقية، والمراجعة، والشك.
ولسوء الحظ، أو لحسنه، تساقطت أمام عينى، على مدى السنوات، الكثير من المواقع، والصحف والمجلات التى تتمتع بحضور غير طبيعى لدى الكتاب والمفكرين والمحللين السياسيين المصريين والعرب، حتى لم يعد منها ما يمكن اعتباره محل ثقة وتقدير إلا أقل القليل.
ولعله من المعلوم لدى الجميع، أنه فى فنون السياسة والعلاقات بين الدول، لا مكان للأخلاق، أو القيم العليا والمثاليات، إلا فى خطب الزعماء أمام الجماهير، ووسائل الإعلام، ووجود الأخيرة ليس تزلفًا لها، ولكن لأنها تنقل تلك الخطب «الرائعة» للجماهير أيضًا، أما الغرف الخلفية، والقاعات المغلقة، فلها حديث آخر، لا تعرف عنه الجماهير شيئًا، إلا بعد فوات الأوان، وسداد الفواتير، وتسويد الخانات، لك أن تحب، وأن تكره، ولك أن تكذب، وأن تشوه الحقائق والمعلومات، أو تخفيها، لك أن تقتل فى الخفاء، ثم تخرج للناس مدعيًا دور الضحية، ولك أن تحاول تبرير كل هذا إذا ما وقعت الواقعة، وتم فضح ما فعلت أمام «الجماهير»، ولك أيضًا أن تتجاهل كل ذلك، ثم ترتدى ثوب المسكين الذى يسأل الناس المغفرة لأنه بلغ من العمر أرذله، ويقضى آخر أيامه.
كل هذا وغيره، من الوارد أن يراه البعض دهاء، وحنكة، ومهارة سياسية، وربما يستميت فى الدفاع عنه وتبريره، وينجح فى إقناع «الجماهير» به، لكن ما لا يمكن قبوله أو تبريره، ولا يمكن أن يمر مرور الكرام، هو أن تكون متآمرًا وغبيًا. تدعى الحكمة، ثم لا تنطق إلا بالحماقات، تقدم للدنيا نفسك باعتبارك راعى الديمقراطية، ثم إذا جاءت لحظة الحقيقة، يراك الجميع تمارس أسوأ أنواع الإقصاء والديكتاتورية. تدعى الاعتماد على «مفكرين بارزين»، ثم تقدم تفاهات متهافتة، ومهلهلة، وفاقدة أبسط قواعد الصدق، ويغلب عليها التشوه. تضع لنفسك عنوانًا كباحث عن «السلام الدولى»، ولا يجد أحد فى صفحاتك سوى «أناشيد الحرب والانقسام».
وفى هذا المربع البائس بالضبط، يقف «مركز كارنيجى للسلام الدولى»، خصوصًا فى قسمه المعنى بالشرق الأوسط، الذى يصدر نشرة إلكترونية يقدمها باعتبارها «تندرج فى صلب برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى».
هذه النشرة «البائسة» توقفت عن قراءة ما تقدمه منذ سنوات قريبة، لضعف المحتوى، وافتقاره أبسط قواعد تدقيق المعلومات، ودأبها على ترديد الأكاذيب، خصوصًا فيما يتعلق بالشأن المصرى، واكتفيت بما يصلنى منها على بريدى الإلكترونى من عناوين ما تبثه من مقالات، ونبذة مختصرة من كل تقرير، فإذا كان بها ما يثير الاهتمام، ذهبت إليه لأرى ما لديهم.
وهذا تمامًا ما حدث الأسبوع الماضى، وتحديدًا صباح السادس عشر من مارس.. كان العنوان لافتًا، «الخسائر البشرية فى سيناء»، ولا أظن أن عنوانًا مثل هذا يمكن تفويته، أما النبذة فنصها كالآتى «أدّت التكتيكات ثقيلة الوطأة التى تلجأ إليها مصر فى سيناء إلى ارتفاع فى أعداد الضحايا المدنيين، مما قد يتسبّب بتأجيج مشاعر العداء ضد الحكومة».. هنا بدأ الشك، نعم هناك ضحايا مدنيون، فهكذا هى الحرب، ولكن على أى أساس بنى كاتب التقرير رأيه بتأجيج المشاعر؟ وما المعلومات التى أتى منها بعبارة «ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين»؟ ما مصادرها؟ وما مدى صحتها، ومصداقيتها؟
وكان إن بدأت فى قراءة التقرير، ويا ليتنى ما فعلت، فلا جديد هناك.. نفس الأكاذيب، ونفس التهافت، ونفس العداء للنظام المصرى، ونفس الطريقة فى لى عنق الحقيقة، وتزوير المعلومات.
كاتب التقرير شخص اسمه ماجد مندور، ويقول موقع المركز عنه إنه محلل سياسى وكاتب عمود «سجلات الثورة العربية» لدى موقع «أوبن ديموقراسى»، وبتتبع بسيط لمقالاته و«تحليلاته» لن تجد سوى سطحية شديدة فى التناول، عداء شديد الوضوح للعسكرية المصرية، كم كبير من المعلومات الكاذبة والمغلوطة، جهل بطبيعة الحياة فى مصر، وسذاجة مفرطة فى المعرفة بالعلاقات الدولية، أما ما يتعلق بتقريره عن سيناء، فحدث ولا حرج، فمنذ السطر الأول، وحتى السطر الأخير، لا تخلو عبارة من مغالطة، أو فهم ساذج، أو تأويل سطحى، أو معلومة مهلهلة.
بنى المحلل فى «أوبن ديموقراسى» استنتاجه «بالتأجيج وارتفاع أعداد الضحايا»، على «تزايد اعتماد الجيش المصرى على الأسلحة الثقيلة وسلاح الجو فى حربه على تنظيم ولاية سيناء التابع للدولة الإسلامية فى شبه جزيرة سيناء».. هذا نص كلامه. وإذا غضضنا الطرف عن عدم توصيفه للتنظيم بـ«الإرهابى»، وعدم استخدامه علامات التنصيص لعبارة «الدولة الإسلامية»، وهو ما يعد فى أعراف الكتابة إقرارًا بها، فأى أسلحة ثقيلة تم استخدامها فى سيناء؟!، ومن هم هؤلاء الضحايا الذين تزايدت أعدادهم؟ اللهم إلا إذا كان يقصد «القتلى» من «مجرمى التنظيم الإرهابى»، خصوصًا أن الأستاذ «محلل كارنيجى» يحدثنا بأن «عمليات الإعدام خارج نطاق القانون فى سيناء بلغت 1234 من أصل 1384 عملية فى مختلف أنحاء مصر»، ووقعت الغالبية الكبرى لهذه العمليات (1177) فى محافظة شمال سيناء التى تضم بلدتَى العريش والشيخ زويد، فضلًا عن جبل الحلال الذى يشكّل بؤرة التمرد. وعلى مستوى البلاد بكاملها، تسبّبت الهجمات الجوية فى مقتل 451 شخصًا، فى حين بلغت حصيلة عمليات الاغتيال 443 قتيلًا، والوفيات خلال العمليات 368 حالة، ولقى 56 شخصًا مصرعهم فى نيران المدفعية. إذًا تستحوذ المدفعية وسلاح الجو على حصة 36.6 فى المائة من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون فى مصر».
هذا ما كتبه «المحلل»، متناسيًا أن يقول لقرائه، ومموليه الذين يعرفون غالبًا، ما المقصود بمصطلح «القتل خارج نطاق القانون»، من حق القارئ أن يعرف أن العملية كلها هى عملية قتل خارج نطاق القانون.. فهناك دولة تطارد إرهابيين مسلحين يختبئون فى الأركان والزوايا، وكل قتيل منهم هو قتيل خارج نطاق القانون، وكل عملية ضدهم هى عملية اغتيال، وهى عملية إعدام.
القتل فى إطار القانون، هو «الإعدام بحكم المحكمة»، وما عداه هو ما يطلق عليه المصطلح، فأى قانون يمكن الحديث عنه فى مطاردة هؤلاء المجرمين والقتلة؟! وأى مضللٍ يمكنه أن يسمى هؤلاء بـ«الضحايا»، أو«الأشخاص»؟! وأى تزوير يعمد إليه الكاتب ومموليه من استخدامهم لهذه العبارات المبهمة؟!
ولك يا صديقى أن تلاحظ أيضًا تلك العبارة «المجرمة» التى استخدمها الكاتب والمركز فى الحديث عن التنظيم الإرهابى حين يقول: «فضلًا عن جبل الحلال الذى يشكّل بؤرة التمرد».. أى تمرد؟ وهل من المقبول وصف هؤلاء المجرمين بالمتمردين؟ أو «المجموعة المتمردة»، كما جاء فى الفقرة التالية: «أدت حملة القمع التى تشتد وطأتها إلى زيادة عدد الهجمات التى تبنّاها تنظيم ولاية سيناء، وهو الفرع المحلى لتنظيم الدولة الإسلامية والمجموعة المتمردة الأساسية فى البلاد، لتصل إلى 48 هجومًا شهريًا فى الأشهر الستة الأولى من العام 2016، بالمقارنة مع 28 هجومًا شهريًا فى الأشهر الستة السابقة».
أى باحث هذا؟ وأى مصادر جاءته بهذه البيانات؟ 48 هجومًا شهريًا لمدة 6 أشهر، أى أكثر من هجوم ونصف الهجوم يوميًا؟! أين حدث هذا؟! وأى مصداقية ننتظرها من مركز يبث هذا الهراء؟!
هكذا.. من حق القائمين على مركز «كارنيجى»، بمقره فى 1779 بضاحية ماساشوستس، فى العاصمة الأمريكية واشنطن، أن يكرهوا مصر وحكوماتها وشعبها، وأن يحبوا الإرهابيين والقتلة فى سيناء، لكن ليس من حقهم أن يحدثونا عن هؤلاء المجرمين بوصفهم «ضحايا القتل خارج إطار القانون» أو باعتبارهم «متمردين».. من حقهم ادعاء الحكمة، والديمقراطية، والدعوة للسلام، لكن ليس من حقهم «تأجيج» المشاعر، وبث النيران، وتزوير الحقائق لدق طبول الحرب.. من حقهم ادعاء المصداقية، والاعتماد على «مفكرين بارزين»، لكن ليس من حقهم تقديم تفاهات متهافتة، ومهلهلة، وفاقدة أبسط قواعد الكتابة والتفكير السليم.
استقيموا يرحمكم الله.