رسالة مفتوحة لفضيلة الإمام الأكبر الطيب
لاحظنا فى مقابلات فضيلتكم فى الداخل والخارج الإشارة إلى المادة الرابعة والستين من دستور مصر فى آخر تعديلاته، ولمن غير الدارس لقواعد لغتنا العربية التى نعتز بها فى الداخل والخارج باعتبارها لغة منضبطة تشكيلًا وتعبيرًا، ليس فقط فى الأحرف وتشكيلها، ولكن حتى فى دقائق الإشارات ومواضع الكلمة، فهناك فرق شاسع بين الفصلة والنقطة والعبارات التى ترد بعدهما وعلاقتها بما قبلها، وهنا أخص تركيب أجزاء المادة الرابعة والستين التى دونت على النحو التالى:
حرية الاعتقاد مطلقة.. «وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون».
فضيلتكم تعلم جيدًا مدى اعتزازى وتقديرى لشخصكم، فعلاقتنا يرجع تاريخها لنحو ربع قرن مضى، ليس فقط مع توليكم مركزكم المرموق حاليا كإمام للجامع الأزهر، بل إلى ما قبل ذلك بزمان سواء فى دوركم المتميز برئاسة جامعة الأزهر، إذ لا شك كنت تبذل الجهد بالانطلاق بالجامعة إلى عموم مصر، وليس قصرًا على القاهرة، بل غطت فروعها مصر كلها من شمالها إلى جنوبها حتى أصبحت أكبر جامعة ربما على المستوى العالمى، وانفتاحها على جميع دول العالم الإسلامى.
أما ما قد تردد على لسان فضيلتكم من ترديد عبارة «حرية الاعتقاد مطلقة»، فإنها عبارة غير متصلة بباقى المادة، حيث وردت منعزلة تمامًا فى وضعها وعدم التصاقها بباقى عناصر المادة الدستورية، وقد يفوت على غير المتخصصين فى قواعد وعلم الكلام فى اللغة العظيمة أنها جملة قائمة بذاتها لا تعطى أى ميزة لصاحبها، فمن ذا الذى يشق صدور البشر ليعرف ما يخبَّأ بها؟! فالاعتقاد شىء والمجاهرة والعلنية شىء آخر، وإلا ما وردت الجملة مستقلة تمامًا فى الشكل والموضوع حتى جاء تدوينها كما بيناه فى صدر هذا المكتوب، وليكون ذلك واضحًا لدى القرّاء الذين ليس بأيديهم نصوص المواد لمعرفة موضع الكلمة.
أما التوضيح الآخر فقد ورد حرف الواو فى صدر الجزء الآخر من المادة المشار إليها تأكيدا على الفصل وليس الإضافة، فقد جاء التعبير على النحو التالى «وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون».
لذا لزم الإشارة للقارئ أن هناك فرقا أو أكثر بين الاعتقاد وليس العقيدة، فالاعتقاد بطبيعته مطلق لأنه داخل صدور أصحابه وليس منا من يملك شق صدور الناس، وحتى لو فعلنا فلن نعثر على ما يدل على عقائد الموتى بعد شق صدورهم، كما تفعله فرق اليوم سواء ذبحًا أو حرقًا.
وأما عن حق الممارسة لأصحاب الديانات السماوية فقد قيد بعبارة أنه ليس حقًا مطلقًا وليس حقًا شاملًا، فالحق ينظمه القانون، والقانون فى نصه الحالى وما قبله من تعديلات لا يشمل كل الديانات السماوية، بل قصر الحق بقيد يقيد الكنائس دون سواها بدليل أن الشروط العزبية العشرة التى وضعها وكيل لوزارة الداخلية فى منتصف القرن الماضى حتى ارتبطت باسمه لليوم والمعروفة بالشروط «العزبية العشرة» والتى يستحيل معها تحقيق مبدأ الحريات وهو مقصور على فئة واحدة من المواطنين المصريين وليس جميعهم، مما يشير إلى عدم مساواة جميع المصريين كما نردد شعرا ونثرا طالما كانت الشروط العزبية باقية وحتى فى تقديم مسودة مقترحة لقانون جديد لبناء الكنائس وليس دور العبادة، فالقانون يؤكد التفرقة ولم يذكر إلغاء الشروط العزبية، وهى ليست من القوانين، فيمكن اعتماد مواد الدستور مع تحفظاتنا على صياغة بعض مواده، وتبقى شروط «الباشا العزبى».
فضيلة الإمام دعنى أخاطب ضمير فضيلتكم بسؤال هل أنتم راضون عن هذه المعاملة لشعب جذوره مصرية لم يفد من خارجها ولم يأتها غازيًا أو معتديًا أو سالبًا لحق الآخرين، بل فتحت قلوبهم قبل ديارهم، ولم يكونوا محاربين، بل وقف أقباط مصر مع بضعة آلاف من العرب ضد الرومان المحتلين لأرضنا مصدقين أن العرب أقرب إلى المصريين جيرة وثقافة فى زمانهم، فكان ما لاقوه ويشهده التاريخ.
لقد آن الأوان أن نوحد الجهود ليقبل الواحد الآخر تاركين ما فى الصدور لولى الأمور الديان العادل ذاك الذى معه أمرنا.
لا شك أن العالم الحديث يتكلم عن غزو القمر وعن أحدث وسائل العلاج من الأمراض التى كان من المستحيل علاجها، ونحن المشرقيين نسعى لطلب مساعدتنا فى علاج مرضانا، وعندما نستطيع فلا يسألنا كائن من كان عن ديانتنا أو عقيدتنا بأى وسيلة سواء مباشرة أو بأساليب أخرى حتى فى بلاد الأمريكان، يفسحون المجال للإنسان أيًا كان دينه أو عقيدته، وهكذا نقلوا خبرتهم وعلمهم ووسائلهم إلى بلاد العالم، لا يسألوننا عما ندين به أو ما نعتقده، ونحن وضعنا كل الأسوار والحواجز، حتى دور التعليم أصبح فى مصر تعليما مقصورا على ديانة بعينها دونًا عن باقى الأنظمة.
فحتى يلتحق طفل من ذوى الأربع سنوات أو الخمسة بالتعليم وحتى ينهى تعليمه الجامعى لا يلتقى طوال حياته بمن يخالفه فى الدين، فضلا عما يتلقاه من مواد لا تشجع على قبول الآخر، بل تزيد الطين بلة بالتحريض عليه ورفض العلاقة، ولعل ذلك يا فضيلة الإمام يبينه الفرق بين دور تعليم أنفقت عليها الكنائس وفتحت أبوابها لكل أبناء مصر، بل رفضت تخصيص فصول مستقلة لأبنائنا من المسلمين وأخرى لأبنائنا من المسيحيين، مع تحملنا نفقات أكثر بحيث لا ينفصل أبناء الوطن الواحد فى فصولهم الدراسية، ولا تزال هذه السياسة مستمرة على جميع الأصعدة.
فضيلة الإمام، مصر وطن يعيش فينا كما نعيش نحن فيه، وما لم تتغير نظرتنا للآخر سنزداد تراجعًا ونلتمس معونة الغرب الذين يسعون للقمر قريبًا، ونظل نحن نتحاور حول قضايا جانبية نحن فى غنى عنها.
ندعو الله خالق الأكوان أن يلهمنا العون والمغفرة لقبول الآخر، تاركين الأحكام لقاضى القضاة ومعين من لا معين له، وإلى لقاء قريب.