الدولار والجنيه.. يوم لك ويوم عليك
كان يا ما كان.. كانت «جريدة الأهرام» هى الجريدة المفضلة لأبى، أقرؤها بعد أن يعود من عمله، وأتذكر ركنًا كنت أحرص على متابعته فى الصفحة التاسعة هو باب أسعار العملات الأجنبية وأسعار الذهب.. رغم أننى فى أوائل الثمانينيات لم يكن لى أى نصيب من الذهب، ولم أكن قد رأيت عملة سوى الجنيه المصرى، لكنه الفضول لا أقول الاقتصادى بل المعرفى.
لم يكن اهتمامى بأسعار العملات منصبًا على الدولار الأمريكى بل كنت أكثر ميلًا لتتبع الين اليابانى والفرنك الفرنسى والمارك الألمانى، قبل توحيد العملة الأوروبية، وكل هذه العملات كانت قيمتها أقل من قيمة الجنيه المصرى، فما الذى حدث لعملتنا؟، كيف تهاوت قيمتها على مدى الثمانينيات والتسعينيات، وما بعد الألفية الثالثة؟، كيف انحدرت قيمة الجنيه أمام الدولار من 5 دولارات للجنيه الواحد عام 1939 إلى ٢٫٥٥ دولار للجنيه الواحد عام 1973، وحتى مع بداية الثمانينيات ظل الجنيه محتفظًا بصدارته وتفوقه على الدولار، ففور تولى مبارك الحكم فى عام 1981، كان سعر صرف الدولار يساوى 60 قرشًا، ماذا حدث مع بداية التسعينيات لينهار الجنيه ويصل سعر الدولار لـ375 قرشًا؟. وفى نهاية التسعينيات عرفت الدولار، وتعاملت معه بشكل مباشر، حيث كانت تصلنى مع عدد من الأصدقاء الكتاب شيكات بقيمة القصص والمقالات التى تنشرها لنا الجرائد العربية مثل الحياة اللندنية والراية القطرية، وظل الدولار فى صعوده حتى وصل عام 2007 إلى 550 قرشًا، وإلى 800 قرش حتى 2015. ثم كانت الضربة القاضية فى العلاقة بين الجنيه والدولار نهاية العام الماضى بوصول سعر الدولار الواحد إلى 19 جنيهًا، بعد قرار تعويم الجنيه المصرى، لكن فى الأسبوع الماضى، بدأ هبوط سعر الدولار ووصوله إلى 15 جنيهًا مع عطلة نهاية الأسبوع، ويتوقع الخبراء أن يستمر الهبوط إلى 14 أو12 دولارًا، ولكن هل هذه غاية طموحنا؟، ما الذى حدث لنا؟ ما الذى أدى إلى تدهور عملتنا؟، وبمعنى أدق وأوضح وأكثر صراحة، ما الذى أدى لتدهورنا نحن؟، فالعملة هى رمز، وقيمتها معيار لما نملك، لما ننتج، لما نستورد.. مشكلتنا هى الخلل بين معدلات الإنتاج ومعدلات الاستيراد، إننا نستورد كل شىء تقريبا من المسطرة والأدوات المدرسية البسيطة، إلى السيارات والأسلحة. والاستيراد لم يعد مقصورًا على شركات ومؤسسات معروفة، بل أصبح استيرادًا عشوائيًا يقوم به أفراد يعتمدون فى تسويق ما يستوردونه على الاتصال الإلكترونى، فعلى صفحات التواصل الاجتماعى وخاصة فيسبوك ووالواتس آب، آلاف من المجموعات التى تعتمد على تسويق منتجات مستوردة من تركيا من الملابس والأحذية والحقائب، وهذه منتجات لا توجد حاجة ملحة لاستيرادها، بل توجد لها بدائل مصرية متميزة، وهذا الاستيراد الخلفى دون ضوابط يؤدى إلى الإضرار بالمنتجات المصرية. قد يقول قائل: «هناك بيوت كثيرة مفتوحة من وراء هذه التجارة، فلندعهم يعملوا»، لكن هذا ليس عملًا، هذه سمسرة، العمل هو ما يؤدى إلى إنتاج، أين مصانعنا ولماذا لا يتم إعادة تشغيل المصانع المتعثرة، وقد وصل عددها إلى 870 مصنعًا؟ وقد أدى توقف هذه المصانع إلى انخفاض قيمة الإنتاج الصناعى السلعى لأنشطة مثل المواد الغذائية والغزل والنسيج، بنسبة تقدر بـ23%، أى بنسبة الربع تقريبًا، وأدى هذا بالتبعية إلى انخفاض ناتج الدخل القومى المصرى إلى 140 مليار جنيه عام 2016، ومن المضحك المبكى أن يكون هذا الناتج القومى لدولة فى مكانة مصر وثقلها الإقليمى، دولة يتجاوز عدد سكانها 90 مليون نسمة، هذا الناتج القومى يمكن أن يكون حجم استثمار شركة عالمية متوسطة القيمة، أما الشركات الكبرى فأين نحن من أرقامها؟، يكفى أن نعرف أن قيمة شركة «أبل» الأمريكية وصلت إلى 900 مليار دولار، أى أن الناتج القومى «للذين دهنوا الهوا دوكو» لا يزيد على 15% من إنتاج شركة واحدة عالمية.. فهل من أمل فى صحوة، أم أنه ليس فى الإمكان خير مما كان؟.