عواطف عبدالرحمن سيدة الفصول الأربعة
هى سيدة يسبقها صيتها، هى علم وعلامة على الجدية والحزم والاستقلال، كان دخولها الرصين كلية الإعلام جامعة القاهرة حدثًا رغم تكراره شبه اليومى، فلابد للجميع أن ينضبط ويستقيم حاله .. العمال، الطلبة، والأساتذة.. لأن السيدة التى «لا يعجبها العجب» كما يردد الطلبة الصغار ولا ترضى إلا بأقصى ما يستطيع البشر من كمال كما يعرف مريدوها، قد حضرت، فحضورها فى أى مكان كان تجليًا ومهابة.. إنها الدكتورة عواطف عبدالرحمن.
لم تتح لى دراستى فى قسم الراديو والتليفزيون بكلية الإعلام أن أتتلمذ أكاديميًا على يديها، لكن انتسبت لمدرستها من خلال تعلم زوجى على يديها وإشرافها على رسالتيه للماجستير والدكتوراه بقسم الصحافة.
وفى كل لقاء كانت تدعونا إليه فى بيتها العامر فى شارع البحر الأعظم.. كانت تطوف بنا فى رحلة حياتها منذ مولدها فى عام 1939 مع مشارف الحرب العالمية الثانية فى قرية الزرابى مركز أبو تيج محافظة أسيوط، وتوضح لنا أن الزرابى لا صلة لها بكلمة الزرايب (حظائر الحيوانات)، لكنها تعنى البسط، المفروشات، أو السجاد، وتستشهد بالآية الكريمة «وزرابى مبثوثة»، وكانت ترسم لنا صورة لعالم الصعيد بحكاياته وأسراره وتعقيداته الطبقية والاجتماعية، وكيف أن التقاليد هناك أعمق وأقوى حتى من التشريعات الدينية، وبالنسبة للمرأة فعلى عكس ما يظن الكثيرون تعد المرأة الصعيدية هى المحرك الرئيسى والأساسى لكل الأحداث داخل العائلة، ولا يتم أمر مثل بيع أرض أو زواج دون أخذ رأيها ومشورتها.. وقد أجرت دراسة عن نسبة العنف ضد المرأة فى مناطق مختلفة من محافظات مصر، فوجدت أن العنف ضد المرأة فى الصعيد هو الأقل، إذ لا يتجاوز نسبة 2% فى حين يزيد فى الدلتا إلى 12%، ويرتفع فى المناطق العشوائية بالقاهرة إلى 32 %.. وكانت تدلل على قيمة ودور نساء عائلتها فى تفتح وعيها وفى تكوينها النفسى والروحى بنموذج والدتها السيدة «بهية فهى» التى كانت تحرص على الترحيب بنا وتتبادل معنا الآراء حول ما يحدث من تغيرات سياسية واجتماعية شهدها المجتمع المصرى مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية. وكانت هناك أيضا جدتها «صفصافة»، وهى السيدة التى أطلقت اسمها على سيرتها الذاتية التى صدرت عام 2012 وكتبت فى الإهداء « إلى جدتى الكفيفة صفصافة التى لم يبتسم لها الزمن كما ابتسم للآخرين، ولم يعاملها الدهر بما تستحق».
تتنوع محطات حياة الدكتورة عواطف عبدالرحمن من العمل بالصحافة فى جريدة «الأهرام» إلى العمل الأكاديمى بجامعة القاهرة، وتتنوع اهتماماتها بقضايا المرأة والتنمية والتبعية الإعلامية، وقضايا الاستقلال العربى والقضية الفلسطينية. وقد دفعت ثمن نضالها ورفضها اتفاقية كامب ديفيد، فتعرضت للاعتقال فى سبتمبر 1981، ولا تقتصر دائرة نشاطها على المجالين المصرى والعربى، بل تمتد إلى القارة الإفريقية التى تربطها علاقات وثيقة بعدد كبير من مناضليها، وعلى رأسهم الزعيم الراحل نيلسون مانديلا.
وعندما اتصل بى الصديق «شعبان يوسف» لإدارة ندوة بالمقهى الثقافى بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، تتحدث فيها الدكتورة عواطف عن سيرتها الذاتيةو وجدتنى أستعيد كل ذكرياتى معها، وعندما التقينا غمرتنى بمحبتها وكأنه لم تمض سنوات لم نلتق بها، وكانت سعيدة كعادتها بالتواصل مع كل من تلتقى من البشر، وفى الندوة فتحت السيدة الجليلة مخزون ذكرياتها وطافت بالحضور بين الماضى والحاضر، وعبرت عن رأيها فى ثورة 25 يناير التى ترى أنها إرهاصات ثورة، وأن 30 يونيو حراك مكمل لثورة 25 يناير، وعندما سألها أحد الحضور عن توقعها للمستقبل .. أوضحت «الأستاذة» التى تمتد جذورها للمدرسة التاريخية المصرية، لكنها حريصة على ترسيخ علم الدراسات المستقبلية، أن الوضع المصرى الراهن يتسم بالسيولة ولا يمكن فى ظل هذه المعطيات المتغيرة وضع سيناريوهات مستقبلية، ورجحت سيناريو تغير كل الأنظمة الحاكمة العربية الحالية وحدوث تغير شامل للمنطقة العربية بحلول عام 2030.
مرت الندوة كطيف برق، فى حضرة صفصافة مصرية أصيلة تضرب بجذورها فى عمق الماضى، ويظلل حضورها الأخضر الوارف على الجميع.