الانحدار الأخلاقى وانعدام الضمير الإنسانى «1»
قالت لى الفنانة القديرة محسنة توفيق «لا تذهبى... لن تستطيعى أن تتحملى المشهد... صدقينى». ورددت عليها: دعينى أذهب. وذهبت إلى ملجأ العامرية أثناء زيارتى للعراق 2003 فى الحادى والعشرين من فبراير ضمن وفد شعبى استجابة للنداء العالمى بوصول دروع بشرية من كل أنحاء العالم إلى بغداد للتضامن مع الشعب العراقى ضد مشروع الغزو الأمريكى الاستعمارى للعراق. وليتنى ما ذهبت، كما نصحتنى صديقتى قطعت بنا السيارة ساعة، امتلأت رأسى أثناءها بالأفكار، لماذا منعتنى صديقتى بإلحاح والدموع فى عينيها؟ ملجأ العامرية مكان يبيت فيه الأطفال والنساء والرجال والُأسَر أثناء الحظر على العراق فى تسعينيات القرن الماضى، تجنبا لقصف الطيران الأمريكى والبريطانى. وفى سنة 1998، وأثناء قضاء الليل فى الملجأ للأسر المصرية والعراقية تم قصف الملجأ من الطيران الأمريكى البريطانى.
خلال هذه الفترة كان هناك بضعة ملايين من العاملين المصريين فى العراق، والذين كانوا يشاركون فى مجالات الزراعة والصناعة والبناء، وتزوجوا من عراقيات، ولهم جميع حقوق الشعب العراقى لدرجة أنهم لم يتركوا العراق أثناء فترة الحصار والعدوان. صوب الطيران الأمريكى والبريطانى قذائف مباشرة إلى الملجأ، من نوع قنابل التفريغ. أدت قنابل التفريغ تلك إلى تدمير الملجأ على من فيه، حيث أدى التفريغ إلى تفجير الأجساد، وانتشار الأشلاء على أرضية المكان وجدرانه فى لوحة من أجساد البشر. لا يمكن أن يتحمل إنسان هذا المشهد. هذه الجريمة الدالة على ما وصلت إليه الرأسمالية المعسكرة المتوحشة.
أنت تقف فى هذا المكان على خطوط أرضية محددة للوقوف عندها. أى انحراف عن الخط معناه أن قدمك ستقف على جزء من جسد بشرى. وعلى أحد الجدران المهدمة أسماء وصور هؤلاء الشهداء، فهذه أسرة مصرية من الأب والأم وطفلتين، وتلك صورة لعريس مصرى تزوج قبلها بأسبوع من عراقية. وأسرة أخرى تحمل الأم رضيعها على يديها. وهذه طفلة فى عمر الزهور تحتضن عروستها. وهذا شاب مصرى فى مقتبل العمر كان يحلم بالحياة الأجمل والعروسة الأجمل. تلاشت أجسادهم وتلاشت أحلامهم. ووجدتنى والألم يعتصر قلبى والدموع تنهمر من عينى أردد كان عندك حق يا صديقتى، هذا مشهد لا يتحمله بشر. وترتفع أصواتنا فى أرجاء المكان: لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله، أمريكا وبريطانيا أعداء الله. رجعنا فى السيارة إلى الفندق ولفناالصمت الكامل لأكثر من 24 ساعة.
بعد هذه الزيارة بأقل من شهر، فى 20 مارس 2003 تجمع أكثر من مائة ألف فى ميدان التحرير فى القاهرة للتنديد بالعدوان الأمريكى البريطانى على العراق. وارتفعت الأصوات تردد الهتافات «اللى بيضرب فى العراق، بكرة يضرب فى الوراق» «يا أمريكا لمى جيوشك، بكرة الشعب العربى يدوسك». من لا ضمير ولا أخلاق لهم ممن ارتكبوا جريمة ملجأ العامرية بالعراق، ليس غريباً عليهم أن يتخذوا قرار غزو العراق فى 20 مارس 2003 رغم عدم موافقة مجلس الأمن، ورغم عدم وجود مبررات كافية، فالقرار كان جاهزاً بين السفاحين بوش الإبن وتونى بلير. النية مبيتة لغزو العراق وتدمير جيشه وتخريب اقتصاده والاستيلاء على بتروله، بل ومشاركة رؤوس أموال الدولتين فى إعادة إعماره (وأهو كله فائدة)!
إنه الضمير الإنسانى المنعدم والانحطاط الأخلاقى أمام نهم الرأسمالية العالمية المتوحشة المعسكرة، الذى يبرر العدوان دون سند قانونى، وبأكذوبة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل كما أكد تقرير لجنة تشيلكوت البريطانى أن الأسس القانونية والمخابراتية وراء قرار الغزو معيبة وأن الحكومة البريطانية تبنت الخيار العسكرى قبل استنفاد جميع الخيارات السلمية لنزع أسلحة النظامالعراقى، وأن اللجوء إلى التحرك العسكرى لم يكن الملاذ الأخير أمام الحكومة البريطانية آنذاك، وأنه لم يتم الإعداد بشكل جيد لنشر كتائب عسكرية فى العراق، حيث لم يتم دراسة التهديدات المحتملة كما لم يتم عرض خطة انتشار وافية مما أدى إلى نقص فى المعدات ووقوع خسائر بشرية فى الصفوف البريطانية. لقد أوقعت الحرب على العراق 179 قتيلاً بريطانياً وأصابت الآلاف. وللحديث بقية.