اللبنانيون في ساحة الشهداء.. تحرر من "الطائفية" والتزام بـ"الأناقة"
"أرض محررة من الطائفية" هذا هو حال ساحة الشهداء التي تجمع بها أمس، عشرات الآلاف من اللبنانيين؛ احتجاجًا على أزمة النفايات، في مظاهرات قال منظموها: إن عدد المشاركين بها بلغ مائة ألف، في حين قدرتها مصادر محايدة بنحو 70 ألفًا.
السمة الرئيسية التي يلاحظها أي زائر للبنان هي وجود ظاهرتين متناقضتين تمامًا؛ الأولى عشق الجمال والأناقة إلى درجة الولع، والثانية تغلغل الطائفية والمذهبية والحزبية إلى درجة تثير سخرية اللبنانيين أنفسهم، فالطائفية متفشية بدءًا من السياسة مرورًا بالرياضة وصولاً إلى خطط معالجة القمامة وحتى الطعام الذي يميز كل طائفة ومنطقة.
في ساحة الشهداء العريقة، وفي مشهد نادر في تاريخهم، تخلي اللبنانيون عن الطائفية التي طالما تظاهروا من أجلها بل وتحاربوا تحت مظلتها أحيانا، ولكنهم تمسكوا بأناقتهم التي أكبر عامل مشترك بينهم دوما، فنزلت الشابات اللبنانيات في أبهى حللهن كأنهن ذاهبات إلى سهرة في أحد مطاعم بيروت وظهرت المرأة اللبنانية متألقة وجميلة، بالرغم من زحام المظاهرات، ولهيب الحر والرطوبة الهائلة التي عانت منها البلاد، في الوقت الذي شهد، أمس السبت، انقطاعا شبه كامل للتيار الكهربائي عن كل أنحاء البلاد بما فيها بيروت ووسطها العري ، مضافًا إلى كل ذلك القمامة التي بدأت تنتشر في شوارع بيروت.
ولكن المرأة اللبنانية التي كانت تخرج من الخنادق أثناء النزاعات الأهلية والحروب مع إسرائيل للتوجه إلى صالونات تزيين الشعر، حافظت أمس على تألقها، بل ازدادت تألقا بتخليها عن الطائفية التي تشوه وجه لبنان.
هذا الصيف، تضافرت كل الأزمات لتخرج اللبناني من نمط معيشته المتمسك بحب الحياة والجمال، ولكن هذا الحب هو الذي أخرجه في المظاهرات، فاللبناني تحمل الفراغ الرئاسي الذي كسر حاجر العام والثلاثة أشهر، وتحمل الأزمات الأمنية والسياسية، تحمل انقطاع الكهرباء لسنوات طويلة بحد أدنى 3 ساعات يوميًا، ولكن لم يتحمل أن تملأ النفايات شوارع بيروت التي يصفها أهلها بست الدنيا، تحمل اللبنانيون حروب أمراء الطوائف منذ عقود، ولكنهم لم يتحملوا أن يتشوه وجه بلادهم التي يطلقون عليها سويسرا الشرق.
مظاهرات بيروت أمس شارك بها كل فئات الشعب اللبناني ولكن غلب عليها شباب الطبقة الوسطى اللبنانية، شباب حديث متحرر يصعب تحديد انتمائه الطائفي من مظهره، شباب لبناني قبل أن يكون مارونيا أو سنيا أو شيعيا، وانضم لهم أعداد من الفنانين الذين أكدوا دعمهم لمطالب الشباب مثل مارسيل خليفه، ومعين شريف وغيرهم، ورحبت الساحة بهم مثلما رحبت بالنخب الثقافية والفنية القديمة، غير أنها بدت غير مرحبة بالنخب السياسية التقليدية، وهو ما أدى إلى أن التيار الوطني الحر بزعامة العماد ميشال عون، قرر التظاهر وحده، الجمعة المقبل، بعد أن حاول أن يظهر في بداية الحراك أنه جزء منه بل إنه حاول تقديم نفسه على أنه أحد ملهمي هذا الحراك.
ولكن محاولات الاستفادة سياسيا من الحراك فشلت، فالسمة الرئيسية للتظاهرات هي التعبير عن السخط على النظام الطائفي في البلاد ورفض الإنحياز لـقوى 14 أو 8 آذار والمساواة بينها، فاتفق المشاركون في السخط على الزعماء السياسيين والوزراء، فنال وزير البيئة محمد المشنوق ووزير الداخلية نهاد المشنوق ورئيس الحكومة تمام سلام النصيب الأكبر من الهتافات، ولكن النقد طال أيضا بعض الزعماء الكبار ورموز البلاد، مثل: رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، ورئيس تكتل التغيير والإصلاح ميشال عون، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
حاول البعض في وقت سابق على مظاهرة الأمس، ضم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى قائمة السياسيين المعرضين للنقد، بهدف كسر "التابو" الذي يفرضه مؤيدوه تارة بالقول إنه رجل الدين وتارة أخرى بالقول إنه خط أحمر، وتارة ثالثة بالقول إنه لا يشارك في الحكم بالبلاد.
ولكن جمهور الحزب المتحفز تصدى لهذه المحاولات، وعندما وضع الناشط زياد توبة مطلق مجموعة "عالشارع" صورة نصر الله مزيلة بعبارة لا تبرأه من الفساد، شنت عليه حملات التخوين عبر مواقع التواصل معتبرة نصر الله خطًا أحمر، مما جعلوا أنصار ١٤ آذار يصرون على مطلبهم بضم الصورة كإثبات لموضوعية التحرك.
كما حدث أمر مشابه مع المؤسسة اللبنانية للإرسال "إل بي سي" حين وضعت صورة نصرالله ضمن جزء من ديكور حلقة مباشرة بثتها من ساحة الشهداء عشية تظاهرة، السبت، تتحدث عن الزعماء الفاسدين، إلا أن مؤيدي الحزب رفضوا بث الحلقة.
تعقيدات الحياة السياسية اللبنانية أكبر من أحلام بعض المتظاهرين، والصورة التي ظهرت في ساحة الشهداء، ليست معناها أن الطائفية اقتربت نهايتها في لبنان أو أن السياسيين مستعدون للتخلي عنها، ولذا كانت مطالبات حملة "طلعت ريحتكم"، التي تقود الحراك متواضعة مقارنة ببعض الشعارات التي رفعها المتظاهرون مثل الدعوة لاستقالة الحكومة أو إسقاط النظام، وهي الأفكار التي يمكن أن تدخل البلاد في فراغ خطير، شعارات تريد أن تستبدل "نظام مليء بالمشكلات" بـ"لا نظام"، شعارات قد تؤدي إلى استبدال الدولة الضعيفة بـ"لا دولة"، بينما اللبنانيين يريدون دولة قوية.