رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللُعبة

إنجى الحسينى
إنجى الحسينى

تأملتُ نفسى فى المرآة، أبصرته واقفًا يبتسم كعادته، يتنفس عبيرى الذى يعشقه، يدعونى غامزًا للرقص معه، فترتعش أوصالى خجلًا منه.

كان يومًا يشكو من فيْح الصيف حينما لمحتُه يراقبنى بهدوء، بادلتُه نظرات الهيام وأنا ألملم سعادتى، اقترب منى على مهل، فتنسَّمت الريح على وقع خطواته، ارتعدت بقوة وأغمضت عينى، لامستْ أنامله شعرى، وضع يده على كتفى، ثم أحسست بأنفاسه، فاهتززت كمصباح مرتعش يضىء ويطفئ.

ارتجفتُ من البرودة، فاستيقظت حواسى وأطلقت زفيرًا حارًا، ورسمت بالبخار الأبيض أشخاصًا متعانقة، استدرت أواجهه، فلم أجده! لقد تبخَّر مع الهواء المتصاعد من أنفاسى، فعدت إلى مرآتى حزينة، أتأوه غيابه الذى لم يدُم إلا ثوانى قليلة، فتجلَّى ببشاشة وجهه الوضَّاء.

التفت إليه مقهقهة، ولكنه عاود الاختفاء.

ظللنا هكذا نمرح ونعبث بلا تعب أو ضجر وأنا أقاوم صخب ضحكاتى.

كان يمارس لُعبة الإخفاء التى يجيدها بمهارة، وأبادله اللهو بسعادة، فأنا أيضًا أهوى تلك اللعبة وأتعلَّق بها، وكلما اشتقت إليه فتَّشتُ عنه فى المرآة. 

فعل الكثير حتى نال اللعبة، لعب بها بعض الوقت ثم هشَّمها متعمِّدًا، وبعد فترة انتقى لعبة أخرى فرِحًا مسرورًا، وبينما كان يتسلى بغرامه الجديد، كُسرت هى بين يديه وتحولت لأشلاء منثورة مستخفًا بنتيجة فعلته، وكالعادة، كلَّما حطَّم لعبته يجرى ليختبئ بين أحضانها، فتربِّت زوجته عليه بحنان، فهو ابنها المدلل الذى يريد اللعب، وكان يكفيها أن حضنها هو الملاذ الأخير، وأن حصنها ثابت لا يمكن كسر أبوابه.

هكذا تفكر غير مكترثة بما يفعله وبما تسمعه عنه من شقاوة ومن قلوب عانت ويلات خداعه، فإن ما يشغلها هو البرواز الاجتماعى الذى تتشبث باستماتة للحفاظ عليه، بعدما اكتشفت أنها أول دمية حرص على اقتنائها ثم أهملها حتى غطَّاها تراب الزمن، ومع الوقت تحوَّلت بالفعل لآلة تتحرك كجسد بلا روح، تربطه به مجرد خيوط كعروس ماريونت تؤدى عرضًا منزليًا واجتماعيًا يرسم البهجة على قلوب أولادها ويثنى عليها كل من يعرفها، تفعل ذلك وهى تردد بين طيات قلبها المتحجِّر: «زى قلبى ما ضاع تضيع كل القلوب بعده»، لقد اكتشفت أن المرأة غبية عندما تحب، حتى كل من وقعن بشِباك ذلك اللاهى، هنَّ غبيَّات مثلها وحمقاوات، ولا جدوى من إقناع عاشقة بأنها لعبة بين يديه.

يسألوننى دائمًا عمَّن يحمله قلبى! 

يسألوننى وكأننى العندليب: «حبيبتك، من تكون؟»

فتمر صور لأحبة أعشقهم.. 

فى قلبى عائلة بأكملها ذات وجوه متعددة، وأعمار متفاوتة، وذكريات لا تُنسى، بل إننى أحمل قلب أم، وما أدراك بالأم فى محبتها؟!

فى قلبى صورة لكل إنسان ابتسم فى وجهى، وكل من شجعنى بكلمة أسعدتنى، وكل صاحب جعلنى أخطو للأمام، وكل شخص وثقت به ووثق بى، وأشياء كثيرة من هذا القبيل.

ولكنك ذبحت قلبى.. طعنته للأبد.. 

كنت «بروتس» فى روايتى. 

وكنتُ لُعبة حطمْتها بكل قسوة، ولم تبالِ كيف هجرتنى شبح امرأة!

لم أفهم حتى الآن، لماذا دخلت حياتى لتعبث بها؟ ولماذا لم تهتم بمصيرى؟ 

لقد رحلت وتركت قلبى الدافئ خاويًا، وأفرغت ما به من حب وصور وذكريات، أمقت كل رجل يبوح لى بحبه، أرى فيه قبحك الشديد ودمامتك التى لا تُحتَمل، أسمع صدى أكاذيبك تختلط بأحاديثهم الحلوة، فترتسم البغضاء على وجهى، أصد كل محاولاتهم التى ذلَّلتُها لك، وأدعوهم بالأوغاد.. أنا الآن مجرد حطام لعبة كانت تتنفس الحياة.. وليمُت قيصر!

 

كانت بمثابة دُمية لم تعنِ له الكثير، ولكنه صار بعد حين لُعبة فى يد غيرها، تتلاعب به كيفما تشاء، لم يعرف كيف وقع فى هذا الفخ وهو الصياد الماهر والقنَّاص الذى لا يخطئ فريسته، أحس بالخذلان وتألَّم قلبه، توجَّع بشدة، شعر بالإهانة عندما تذلل حبها وتذوق شراب الفقْد. 

جاء يوم الحسرة، أدرك خطأه ومدى جُرمه، عضَّ على يديه ندمًا حينما اكتشف أنه أضاع حبه الحقيقى، هام كثيرًا باحثًا عنها وحاول استعادتها.

كم عانت المسكينة كثيرًا فى انتظاره، تستذكر كلماته وتسعيد دوى صوته حين نطق «أحبك»، عندما ابتلى القلب الأخضر بالحب لأول مرة فى حياتها، تسهر ليالى الشوق تبكى غيابه، ويرتعش جسدها إذا صافحها، تطير من السعادة وترقص طربًا كلما هاتفها، تذوب كقطعة الثلج من حر إحساسها.. كان يلاحظ برودة كفيها، ولمعان عينيها، وحشرجة صوتها، وعلو أنفاسها عندما يهمس إليها بكلامه المعسول، ومع ذلك تركها من أجل تلك اللعوب والتى حذَّره منها الجميع. 

وفى الوقت الذى أخبرها فيه بندمه، كان الأطباء يزرعون بداخلها قلبًا صناعيًا كى تعيش.. 

وللأسف، لم يعد القلب نفس القلب الذى عشقه بإخلاص؛ فقد بهت لونه الوردى وذبل حتى مات، والآن هو مجرد ماكينة تنبض بالدقات.. حلاوة روح.