رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيطانُ يكتب نشرة الأخبار.. وبناتُه يقرأنها!


(1)
على طريقة «صابحة تى ڤى» فى فيلم «سمير أبوالنيل»، جلستُ أتابع نشرات الأخبار لعدة أيام على  شاشة «بنانا تى ڤى» وأخواتها. كنتُ أستمع للعبارات وأتأمل وجه المذيعات وكأنى أرى ذيل الشيطان- فى صورته السينمائية التقليدية الهزلية- يتلوى خلف مقاعدهن وأخاله يتكئ فى غرفة الكنترول وهو يشاهد بفخرٍ بناتِ أفكاره وبناتِ تربيته وهن يقمن فى دول المنطقة بما لم تستطع القيام به أجهزة ومؤسسات يُصرف عليها من أموال الشعوب الكثير! لقد أدرك الشيطانُ فى الشرق الأوسط من أين يأتينا.. إنها الكلمة، فخلق الكون كان من كلمة من الخالق. وتمرد الشيطان كان فى كلمةٍ مرقت منه فى لحظة غرورٍ ندم عليها ندمًا لم يقبله الخالق. وكلمةٌ وسوس بها فى أذن غريمه الطينى فأخرجه بها من الجنة ليشقى! 
أصدق الفنانَ حسن البارودى كثيرًا فى رائعة «أمير الانتقام»، وهو يقول «قرطاس وريشة.. هى دى عدة القتال مش تقولى خنجر.. طول عمرى أخاف من القلم أكتر ما أخاف من السيف!»..نشرات أخبار تترى لتزيين الباطل وتلميعه ولفه فى أوراق وقراطيس سوليفان لامعة براقة من تلك التى أدمنتها شعوب تلك المنطقة، ثم كانت الأنباء الأخيرة بعقد اتفاق لإنهاء مقتلة غزة، فانتشت ورجفت الشاشات وألقت بمزيدٍ من محتوى القراطيس على تلك الشرائط الحمراء بالأسفل، والتى لفها بيديه غير الشريفتين الشيطان بذاته!
ابتكر الشيطان قاموسًا لغويًا يحدثه فى كل حدث جديد ويلقى به إلى ديسكات التحرير قبل أن تنساب ألفاظُه بنعومة مع تلوى المذيعات اللاتى تم اختيارهن بعناية فائقة. فهن لسن قارئاتٍ محايدات للنشرات، وإنما كتيبة من كتائبه أحسن تدريبهن وإعدادهن، يعرفن متى يبتسمن ومتى يقطبن حواجبهن، ومتى تلمع أعينهن لنقل رسائل تعجز الكلمات عن نقلها فتخترق عقل المواطن العربى مباشرة وكأنها «بتربى زبون لصاحب المحل!».
(2)
قبل أخبار الهدنة بيومٍ واحد تولّين تلبيس الخازوق للمواطن العربى طائفى الهوى والهوية بطريقة تثير الإعجاب. أخبارٌ من المفترض أن تقبض قلب أى مواطن يدعى العروبة الشعبوية عن تدمير أسلحة وذخائر سورية نوعية.. قدم الشيطان عبارته السحرية التى آتت مفعولها مع مهارة قائلتها.. تدمير بقايا أسلحة جيش النظام المخلوع! هكذا بمنتهى البساطة والعبقرية يتعاطى مهابيل الطائفية الدينية الخازوق وهم فى منتهى الانتشاء الثورى وأسلحة وذخائر جيش سوريا يتم تدميرها! 
نفس شاشة «بنانا تى ڤى» وأخواتها أطلقت على جيش العراق جيش صدام حسين فسقطوا هناك فى الفخ.. جيش بشار المخلوع.. جيش القذافى! سقطوا جميعًا ودمروا أسلحة جيوشهم وجيوشهم وبقيت الأوطان عارية مستباحة! نجح الشيطان نجاحًا هائلًا مروعًا هناك وسقط سقوطًا مدويًا فى مصر. أخرج المصريون ألسنتهم له وصدقت كوميكس المصريين الساخرة فى تصوير الشيطان مهزومًا مدحورًا أمام أفكار الست عفاف فى ضبط سلوك زوجها أو ضبطه متلبسًا! 
لكن نجاح المصريين فى سحقه كان أقسى عليه من الهزيمة أمام الست عفاف. هزيمته أن قاموسه الذى اعتقد أنه عبقرى وبه سمٌ قاتل ناجع لكل دول المنطقة ويقوم على الخداع بنسبة الجيوش للرؤساء، الذين يتم تثوير الشعوب ضدهم، فتكون الثورة ضد الرئيس وضد القوات المسلحة وضد الوطن ذاته، فيتم هدم الوطن وتفكيكه أو ترويضه أو اعتلاؤه أو حتى استئجاره! لقد فشل فى إقناع المصريين بأن جيش مصر هو جيش مبارك، أو جيش أى رئيس، فالمصريون لم يقوموا سوى بالتصرف حسب موروثهم التاريخى وحسب شخصيتهم الحقيقية. الجيش جيش الوطن، ومقدراته ورجاله وأسلحته وذخيرته وشرفه وكل ما يتعلق به هو جزء لا يتجزأ من جسد الوطن ذاته. ذهب الرئيس وبقى الوطن وبقيت قواته المسلحة. هذه شخصية مصر بالأمس واليوم وغدًا، وحتى قيام الساعة إن شاء الله.
(3)
فى مربعات ابن عروس الشعبية المصرية- والتى أمتعتنا بها فرقة مصرية من حفيدات إيزيس اسمها طبلة الست- هناك عبارة تقول «آه من الغرورة وميت آه، رامية علينا الرزية، الرقص أبدًا ما تنساه لو حتى تابت الغازية!»، اكتشفت مؤخرًا أن هناك دولًا فى المنطقة تمارس السياسة وتحدد مواقفها السياسية الحاسمة جدًا طبقًا وتصديقًا لهذا الإرث الشعبى. وأن العبارة تنطبق حرفيًا وبشكلٍ فظٍ جدًا على إحدى تلك الدول، فبدت تمامًا كأنها تلك الغازية- موضوع مربع ابن عروس- التى أعلنت توبتها رسميًا، وعلى أعلى المستويات عن رقص الغوازى بمعناه السياسى، حتى كدنا نصدق تلك التوبة، حتى فاجأتنا أخيرًا بموقفٍ سياسى لا يمكن تفسيره سوى أنه الحنين للماضى! الواقع هى أنها أبدًا لم تتب أو تتحرر عن التفكير السياسى المخلوط بالطائفية الدينية، وإنما كان موقفها بحثًا عن دورٍ أكثر رواجًا! ليس عيبًا أن تسقط دولة فى فخٍ أو خطأ سياسى فادح وتدفع ثمنه- شعبًا وحكومة- ثم تنضج وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى كدولة تتخذ قراراتها من عقلها وضميرها لا من هوسها الطائفى وفزعها الطائفى! 
لقد سقطت دول- منها مصر- فى هذا الخطأ منذ نهاية السبعينيات، ودفعنا جميعًا ثمنه حين فتحت دولٌ أبوابَها على مصراعيها لجماعات الإرهاب الدينى المسلح، وقامت دولٌ أخرى بتوفير الغطاء الدينى انطلاقًا من مكانتها الدينية المرموقة بين المسلمين، وقامت دول ثالثة بتوفير الدعم المالى لتلك الجماعات ومن يساندها. لقد سقطنا جميعًا فى الفخ وقتها ودفعنا وما زلنا ندفع الثمن. ثم تم الإعلان رسميًا ومن أعلى المستويات أن ذلك كان اتفاق شيطانٍ صريح برعاية الـ«سى آى إيه» لخوض حربٍ نيابة عنها. لقد استوعب معظم الدول هذا الدرس جيدًا، ومنها مصر. استوعبت الإدارات التالية هذا الدرس وقررت حماية مصر من تلك المقامرات التى لا تتسق مع هوية مصر، والتى كان لها أكبر وأسوأ الأثر فيما حدث فى مصر من تخلف وإرهاب وضيق اقتصادى وتقهقر فى مجالات حضارية كثيرة. 
كان من المفترض أن يكون باقى الدول قد استوعبت هذا الدرس، لأنها أيضًا دفعت أثمانًا غير قليلة حين تم إلصاق تهم جرائم إرهابية دولية بها؛ نتيجة انتماء بعض مقترفى تلك الجرائم لهويتها، واستبشرنا خيرًا بمواقف بعض تلك الدول، وأنها يمكن أن تكون- مع مصر- هى حائط الصد الأخير فى المنطقة؛ لضمان نجاة شعوبها من العودة مجددًا لهذا التيه. حتى تابعت نشرات أخبارهم ورأيتهم يتصرفون طبقًا لموقف دولهم الرسمية، بما يؤكد أن هذه الدول لم تتحرر من الهوى الطائفى، وأن فرحها بتخلصها حديثًا من نفوذٍ غريمٍ طائفى إقليمى يبدو وكأنه قد أحيا لديها رغبات العودة للرقص السياسى الطائفى، أو كما قال ابن عروس! ويبدو أن توبتها لم تكن عن قناعة تامة، وإنما كانت بحثًا عن دورٍ جديد يضيف لها زعامة وزخمًا يتفق مع مفردات السياسة الإقليمية- وقت إعلان تلك التوبة- الرافضة لكل جماعات الإرهاب السياسى، وأيضًا كانت هذه التوبة وقتها تدشينا لشرعية حكم حديثة عصرية للجيل الجديد من الحكام هناك. فلما تبدلت الظروف بهذا الشكل التراجيدى فى الإقليم، اكتشفتْ أن الرقص السياسى الطائفى لم يفقد بريقه بعد، وأنها أولى من غيرها بتزعم وقيادة كل غوانى السياسة بما لديها من ماضٍ عتيق وأيادٍ سوداء ممتددة بالعون المادى أو الأكاديمى الدينى!
(4)
اليوم وعلى صدى ما تم إعلانه من التوصل لوقف لإطلاق النار انطلقت بعض الأفراح المشروعة تمامًا لأناسٍ يريدون فقط أن يعيشوا كباقى البشر. أكثر من مليونى مواطن كانوا يعيشون ولهم منازل وحياة ومصاعب، ثم فجأة استيقظوا ذات صباح على كابوس أو مقتلة استمرت لحوالى أربعة عشر شهرًا. حين تبدو بارقة أمل لهؤلاء فى توقف المقتلة، فمن الطبيعى أن يحتفوا بهذا الأمل فى الحياة. لكن هذا لا يمنع أنهم مقدمون على مأساة إنسانية كبرى حتى يمكن القول إنهم قد عادوا للحياة. لكن الشيطان- عبر قنواته وبناته وأبنائه بالتبنى أو التربية أو الشراء- يريد استغلال تلك المشاهد ليقنعنا بانتصار من أقدموا على جريمة السابع من أكتوبر. خرج أحدهم واسمه- الحيّة- بحق اسمٌ على مسمى وهو يتبجح بأن ما حدث فى السابع من أكتوبر نصر كبير للمقاومة وسيظل محفورًا كإعجاز للمقاومة! الشيطان نجح فى تخدير كثيرٍ من قطاعات تلك الشعوب؛ فأقنعهم بأن الوصول لهذا الاتفاق- المشكوك فى اكتماله- وأن مجرد توقف المقتلة هو أفضل مما كان عليه أهل القطاع يوم السادس من أكتوبر عام 2023م! عشرات الآلاف من الشهداء وما يقرب من ثمن مليون مصاب ومليون مشرد، وقطاع لن يصبح ممكنًا للحياة قبل سنوات، والإفراج عن بعض المعتقلين بعد السابع من أكتوبر، وبعض معتقلى حماس، كل ذلك هو نصر! فما هى الهزيمة إذن؟! الصراع الآن بين الأشقاء سوف يكون على السلطة وحكم القطاع وأموال إعادة الإعمار وسوف يجتر الملكومون آلامهم بمفردهم! لكنهم- بأمر الشيطان وعبر أذرعه الإعلامية- قد انتصروا!
هل من المنطق، أو أنه من البراءة بمكان أن تكون نسبة ما يقرب من أربعين بالمائة من وقت نشرات أخبار ظهيرة، هذا اليوم الخميس، هو عن موقف مصر من محور فيلادلفيا؟! وأن يتم تنحية ما تم إعلانه رسميًا عن اكتمال انسحاب صهيونى من المحور بعد خمسين يومًا، مقابل تصريح لقيط لسياسى صهيونى أنهم لن ينسحبوا؟ ثم يتبين فى آخر اليوم أنه كان يتحدث عن عدم الانسحاب قبل الخمسين يومًا! فيما يزيد على أربعمائة يوم وكل يوم يضعون مصر فى جملة أو عبارة مفادها هل سترضى أو ستقبل مصر التعدى على اتفاقية كامب ديفيد؟! وأربعمائة مرة مصر أعلنت موقفها تصريحًا وفعلًا واقعًا. تصريحًا بأن قالت إنها لن توافق على ذلك، وفعلًا أنها أيضًا قد حركت قواتها المسلحة بعيدًا عن أى تنسيق مع الجانب الصهيونى. مصر تعلم أن محور فيلادلفيا لن تبقى به إسرائيل وأنها سوف تنسحب بعد فشل مؤامرتها فى تهجير أهل القطاع لسيناء، لأن بقاءها بعد هذا الفشل هو ورطة لها وليس لمصر. ولنفترض جدلًا أنهم لم ينسحبوا من هناك، فهل معناه أن تعلن مصر الحرب؟! ما هذا السفه الشيطانى؟! إن مصر لديها عشرات الاختيارات التى تحفظ لها أمنها القومى وحقوقها القانونية، منها ما فعلته بالفعل بأن عقد رئيس الأركان تفتيشًا ميدانيًا على بوابة معبر رفح ثانى يوم لتصريحات نتنياهو عن الأنفاق وعن المحور! 
مصر ليست فى حاجة لأن يذكرها أحدٌ بأمنها القومى؛ لأن التجربة العملية أثبتت أنها هى فقط من أبقت على هذا القطاع لأهله وهى صاحبة الفضل الأوحد فى الوصول لأى اتفاق. على الأرض، كلهم حتى الذين يظهرون فى المؤتمرات الصحفية اليوم أو غدًا مجرد إداريين وموظفين يقومون بأدوار وظيفية وليسوا أصحاب قرار. مصر فقط هى من كانت وما زالت صاحبة القرار منذ اليوم الأول بغلق المعبر أمام خروج الأجانب قبل إنفاذ المعونات. وهى التى كانت صاحبة قرار فى الإصرار على عدم التهجير وعلى الإعلان عن تلقى المساعدات من دول العالم حتى قبل الاتفاق على تنظيم دخولها، بما يعنى أنها دولة تثق فى كلمتها. وهى صاحبة القرار بغلق معبر رفح وعدم التعامل مع أى جانب صهيونى على الجانب الفلسطينى من المعبر! بشكل صريح، كلهم كومبارس/ ومصر كانت بطلة المواجهة السياسية الحقيقية على أرض الواقع. 
(5)
فى الأيام المقبلة سوف يكون استهداف مصر الإعلامى أعنف مما كان فى الأيام والأسابيع القليلة الماضية. سوف يتم اتهام مصر فى أى تعثر بأنها- كوسيط- لم تفِ بالتزامها- وكأن الباقين لا وجود لهم. سوف تتعنت حماس فى عدة مشاهد من تفاصيل تنفيذ الاتفاق فى مرحلته الأولى وفى مفاوضات المرحلة الثانية لإحراج مصر، ولتحقيق أى مكاسب لها فى مشاهد ما بعد الحرب. وسوف تفعل إسرائيل نفس الشىء، وكعادتهم سيتفقون على الضغط على مصر، فلا الصهيونى فقد الأمل فى تحقيق وهمه فى سيناء، ولا الحمساوى وكل من يعتقد أن ما حدث فى سوريا هو انتصار ثورى للإسلام فقد وهمه بسقوط مصر! ولأن ذلك يتزامن مع ما يعتقدون أنه فرصة مواتية لإثارة عواطف المصريين فى الخامس والعشرين من يناير، فأتمنى ألا يتفاجأ المصريون باشتداد موجة استهداف مصر على شاشات تلك القنوات عبر برامج إخبارية. بعض الطيبين من أهل مصر يعتقدون أنهم سوف يشاهدون ويسمعون ثناء كل الأشقاء على ما قدمته مصر- سواء بالإبقاء على الأرض لشبعها، أو استضافة ملايين الباحثين عن ملاذٍ آمن- فى السنوات الأخيرة والأشهر الأخيرة، وذلك بعد الوصول لهذه الاتفاقات! 
حين تتوقف الحرب تمامًا لن تعترف حماس بمسئوليتها عن نكبة شعب فلسطين الجديدة. وهذا ليس رجمًا بالغيب، وإنما بوادره قد ظهرت جلية مع تصريحات اليوم من أكثر من قيادة حمساوية. يتحدثون عن النصر وأن ما يحدث هدنة وإلى آخر ما نعرف من خطاب تعبوى مقصود منه محاولة تجاوز ما اقترفوه فى حق الشعب الفلسطينى. مصر ضامنة مع آخرين لتنفيذ الاتفاق. هذه حقيقة. لكن لو قرر الجانب الصهيونى أو الحمساوى فى أى مرحلة تفجير الاتفاق- كما كانوا يفعلون طوال الأشهر السابقة- فعليهم دفع ثمن قرارهم. ومصر سوف تتمسك بدورها الأخلاقى والمحورى الذى خطته لنفسها. وسوف تتمسك بالحفاظ على أمنها وأمن شعبها. 
سوف تزداد المزايدات على مصر لسبب واحد فقط. أنهم لا يريدون الاعتراف بأنها هى فقط كانت على صواب، وأن صوابها وثباتها على الحق وما آلت إليه الأمور الآن فى ساعة الحقيقة يستفزهم جميعًا. يريدون تجريد مصر من مواقفها التى اتخذتها بالفعل فى الأشهر السابقة، وربما يتمنى بعضهم لو عاد به الزمن للوراء! ولو لم يكن ما فعلته مصر هو الصواب الوحيد  فيما عاصرناه، فلنتخيل المشهد- اليوم فى بدء النصف الثانى من يناير- لو أن مصر قد اتخذت منذ أربعة عشر شهرًا مواقفا مغايرة لما اتخذته بالفعل! 
لو أنها مثلًا فتحت حدودها على مصراعيها وتدفق إليها مليونا فلسطينى. هذا العدد لم يكن ليفقر مصر بجانب أكثر من عشرة ملايين لاجىء عربى عاملتهم مصر كمواطنيها. كانت مصر قادرة على اقتسام قوتها مع هؤلاء. لكن ما كان سيترتب عليه اليوم مثلًا أنه لم يكن هناك اتفاقات ولا إعادة إعمار، وأن إسرائيل كانت قد بدأت بالفعل فى بناء مستوطنات هناك فى القطاع، وكانت ستغلق الجانب الفلسطينى من معبر رفح بعد تفريغه وكان هذان المليونان سيتحولان إلى مليونى لاجىء جديد!
لا تصدقوا أن حماس كانت ترفض ذلك، أى تهجير أهل القطاع لسيناء. لقد تابعتُ ما حدث يوما بيوم. وأول أحاديث لقادتها يوم السابع من أكتوبر- ولقد نشرتُها فى اليوم ذاته فى مقال بالدستور- كانت أحاديث تحريضية للمصريين لفتح الحدود. أول حديث حمساوى لرفض التهجير جاء بعد أسابيع من بدء العدوان، وبعد أن أعلنت مصر بقوة عن موقفها ورفضها التهجير، وبعد تصريحات السيسى الشهيرة أن مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية، وفى كل الأحوال لن تسمح بتصفيتها على حساب مصر. هذه هى الحقيقة. مواقف مصر ومواجهتها مع قوى دولية كبرى هى التى أبقت على بقايا هذه الأرض لأهلها وهى التى قادت لأن تكون هناك اتفاقات وحديث عن عودة السكان وإعادة الإعمار. يجب ألا ننسى مهما حاول الشيطان نشر أكاذيبه وإفكه عبر شاشاته ورجاله!
(6)
ما يقوم به الشيطان- ومنه مشهدان حدثا اليوم- يوحى إلىّ أحيانًا بتوجيه عتابٍ إلى مصر.. أن أهمس فى أذنها.. خلاص كفاية بقى.. يكفينا هذا.. يكفيك ما تقدمينه كل مرة، ثم لا تجدين إلا وقاحة أو نكرانًا أو إساءة أدبٍ ضمنية.. أهمُّ بهذا العتاب ثم أتراجع عنه.. لأنه لا يمكن أن نعاتب شريفًا على شرفه، كما لا ينبغى أن نلوم خسيسًا على خسته! 
سياسى عربى رفيع المستوى يعقد اجتماعًا رفيعًا مع رئيس سلطة الأمر الواقع فى الدولة س. ثم يصدر عن هذا المؤتمر الخزعبلى تصريحات مفادها أن هذه الدويلة كانت دائمًا من المساندين لشعب الدولة س! هناك كلمة مصرية خارجة هى فقط ما تصلح للرد على هذا العبث! الدويلة القائمة بالدور الأقبح فى المنطقة عبر تنفيذ أول تطبيق عملى لسوفت وير تأجير وطن من بابه! عرابة إسقاط جيوش المنطقة! مصر ترفض خلع ردائها والعمل كراقصة استربتيز سياسى. مصر ترفض أن تكفر بنفسها وعقيدتها الوطنية، لكنها لم تتخل يومًا عن إنسانيتها وأخلاقيتها. استضافت- ولا تزال- ملايين من الباحثين عن أمنها وطعامها. فلما قامت لبعض طوائفهم قائمة هناك أشاحوا بوجوههم عنها نكرانًا، وسبحوا بحمد شيوخ القبائل الذين لا يملكون قرارهم حتى فى كتابة تقارير صحفية صادرة عن اجتماعات سياسية رفيعة، فهم فقط يقرأون ما يُكتب لهم!
مشهد آخر لشخصية فلسطينية من السلطة يستنكر الوصول للاتفاق، ويقول إنهم لا يعرفون عنه شيئًا ويعرض بموقف مصر بأن يلهث بالحمد والثناء على الدولة صاحبة القناة التليفزيونية ويصف تلك الدولة بأنها المساندة الأقوى للشعب الفلسطينى والقضية الفلسطينية! مصر التى عقدت أكثر من خمسين جلسة برعاية الراحل العظيم عمر سليمان فقط للمصالحة بين الغرماء الذين يتصارعون اليوم على من سيكون صاحب السلطة على أطلال القطاع! حدث ذلك رغم موقف مصر المبدئى بوجوب الاحتكام للشرعية الفلسطينية التى تمثلها السلطة الموحدة لعدم فصل الضفة عن القطاع! ولكنه دائمًا جزاء سنمار! أهم بعتاب مصر على مواقفها وكدتُ أطلب منها أن تنأى بنفسها عن مشاهد إعادة الإعمار وأن أى دولار هى ونحن أولى به، لأننها مهما فلعنا فلن يكون هناك جديدٌ لأن الطبع والشيم تغلب التطبع. ولكل شعب شيمه التى وثقها التاريخ. لكننى أتراجع عن عتابى هذا وأترك لها حقها فى الحفاظ على شخصيتها وشرفها. وأتمنى ألا يضغط مصريون عليها- رغم أننى أعذرهم لأن لدى نفس المشاعر- لإثنائها عن المشاركة فى مد يد العون لأهل القطاع بعد وقف الحرب. لأنه من حق مصر- أكثر من أى دولة أخرى- أن تكون حاضرة بقوة فى تلك المشاهد لأنها هى صاحبة الفضل فى بقاء هذه الأطلال خالصة لأهلها.
(7)
للشيطان قانونه وقاموسه وأدواته ورجاله، لكن أيضًا للحق قوته المستمدة من الذات الإلهية. والفارق بينهما ساطعٌ لا يمكن الإدعاء إطلاقًا بضباب رؤيته. الحق أن مصر هى الدولة التى استضافت هذه الملايين لأكثر من عقدٍ من الزمن رغم معاناتها الاقتصادية ولم تتاجر بمعاناتهم. وأكذوبة المنح المقدمة من الهيئات الدولية تم فضحها. لقد عاش هؤلاء ونعموا بالأمن فقط بفضل مصر وكرمها. والحق أيضًا أن كثيرًا من هؤلاء قد عضوا أياديها وأدموها ولم يتوقفوا يومًا عن محاولة طعنها منذ وطأت أقدامهم أرضها وحتى يغادرونها. والحق أن مصر خاضت حربًا شرسة- سوف تُكشف وثائقها يوما ما- منذ يوم السابع من أكتوبر 2023م حتى هذه اللحظة ضد قوى كبرى وإقليمية وتواطؤ جيران أو أدعياء الأخوة. والحق أنها خاضت هذه المعارك فقط حفاظًا على الحق الفلسطينى وبقايا أرض فلسطين وليست كما يروج الشيطان أن بقاء القطاع فى يد أهله هو دفاع متقدم عن مصر. لأنه ثبت الآن أن القطاع وما يسمى بالمقاومة لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم أو حماية العزل من أهل القطاع. الحق أن مصر خاضت هذه الحرب دفاعًا عنهم وعن قضيتهم واتساقًا مع شخصيتها. والحق أيضًا أن هذه الحدود قد آلمت مصر كثيرًا وهى تحت سيطرة حماس. والحق أيضًا أن ما حدث فى دولة س هو صراع نفوذ بين قوى كبرى وأن الميليشيات كعادتها ليست إلا أدوات، وأن كل لقاءات المسئولين رفيعى المستوى وهذه الهرولة الغريبة صوب قادة الميليشيا ليست إلا رضوخًا وتنفيذًا لأوامر! وبعضهم فى أحسن تقدير يتخذ موقفه بناء على هواه الطائفى!
هذا هو الحق وليفعل الشيطان كل ما يقدر عليه، فلن يجد ذلك فى مصر نفعًا.. فالآن وعلى هذه الساحة السياسية العربية العبثية مصر هى الحق.. ولا يخشى على الحق من وساوس الشيطان أو أبنائه وبناته!