تَحارُب الأشقاء.. خِدمةً للأعداء!
أن تكتوى بنيران الاحتلال، فذلك أمر طبيعى من عدو يريد إفناءك.. أما أن تأتيك الضربة من أخيك فى زمن الاحتلال، فإنها أقصى وأدمى فى تأثيرها وأقصى إيلامًا، خصوصًا أنه من المُفترض أن تكونا معًا فى خندق واحد، فى مواجهة من يتربص بالإنسان، ويُخطط للاستيلاء على المكان، أرض الآباء والأجداد!!.. هذا ما يحدث فى الضفة الغربية بفلسطين المحتلة.
ولننظر أولًا إلى ما قاله وزير المالية الإسرائيلى اليمينى المتشدد، بتسلئيل سموتريتش، من أنه أمر بالاستعدادات لضم المستوطنات فى الضفة الغربية، وأصدر تعليماته لوزارته «بإعداد البنية التحتية اللازمة لتطبيق السيادة الإسرائيلية هناك».. وإذا كان وزير الخارجية الإسرائيلى، جدعون ساعر، قال «إن الحكومة لم تتخذ أى قرار بشأن قضية الضم حتى الآن»، فإننا يجب ألا نتغاضى عن إشارته، إلى أن ذلك «تمت مناقشته خلال فترة ولاية دونالد ترامب الأولى، كرئيس للولايات المتحدة، وستتم مناقشته مرة أخرى مع أصدقائنا فى واشنطن».. وهى التصريحات التى وصفتها السلطة الفلسطينية بأنها «امتداد استعمارى وعنصرى صارخ لحملة الإبادة والتهجير القسرى المستمرة ضد الشعب الفلسطينى»، كما تؤكد تصريحات سموتريتش «نية الحكومة الإسرائيلية استكمال خططها للسيطرة على الضفة الغربية بحلول 2025».
وترجمة لهذه التصريحات الإسرائيلية، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز»، فى فبراير الماضى، شهادات فلسطينيين فى الضفة الغربية، تفيد بأن قوات الاحتلال الإسرائيلى صارت تستخدم فى هجماتها هناك، تكتيكات مماثلة لما تنفذه فى قطاع غزة، ومن ذلك، القصف الجوى المُدمر واستخدام الفلسطينيين دروعًا بشرية.. وخلَّفت الغارات الإسرائيلية دمارًا واسعًا، فى الطرق وشبكات الكهرباء والماء والصرف الصحى، كما أفاد العاملون فى المجال الإنسانى، من منظمات محلية ودولية والأمم المتحدة، بأن إسرائيل عرقلت جهود الإغاثة، ولم يعد السكان والعاملون فى المجال الإنسانى وبعض الخبراء، يصفون عمليات الجيش الإسرائيلى بالهجمات، بل أصبحوا يشبهونها بالحرب.
نداف وإيمان، مدير منظمة «كسر الصمت»، التى تتألف من جنود إسرائيليين سابقين يرفضون ممارسات الاحتلال، وقد جمعوا شهادات جنود شاركوا فى هجمات فى جنين وطولكرم، وصف ما يحدث، بأنه «غَزْوَنَة الجزء الشمالى من الضفة الغربية»، ونقلت «نيويورك تايمز» شهادات تفيد، بأن قوات الاحتلال، تُجبر الفلسطينيين على الخروج من المناطق المُستهدفة بالقوة الجبرية.. وحذَّرت منظمات حقوقية، من أن الاحتلال الإسرائيلى يستنسخ مثل هذه الممارسات الخطيرة، التى يستخدمها فى غزة وينقلها إلى الضفة الغربية.. وقال مسئولون فى الأمم المتحدة، إن إسرائيل تنفذ فى الضفة الغربية «تكتيكات فتاكة» تُشبه تكتيكات الحروب.. وقد حاول مسئولون أمميون الدخول إلى جنين لإجراء تقييم ميدانى، لكن السلطات الإسرائيلية منعتهم، وفقًا لما ذكره المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، فى سبتمبر الماضى.
وبدلًا من أن أكون «أنا وأخى على الغريب»، يبدو أن أخى اختار أن يكون عونًا للغريب، وفى جنين نفسها!!.. إذ بدأت أجهزة الأمن الفلسطينية، عملية أمنية أطلقت عليها اسم «حماية وطن»!! فى مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، شمالى الضفة الغربية، مُستهدفة مُسلحين ينتمون لكتيبة جنين، تقول إنهم «خارجون على القانون»!!.. واندلعت فى المخيم اشتباكات مُتقطعة، أسفرت عن مقتل القيادى فى الكتيبة، يزيد جعايصة، المُطارد من الاحتلال الإسرائيلى منذ أربعة أعوام، ومقتل عدة مدنيين برصاص رجال أمن السلطة.. وقد بدأت أحداث مخيم جنين، باعتقال أجهزة السلطة، إبراهيم طوباسى، وعماد أبوالهيجا، ما أثار غضب «كتيبة جنين»، التى احتجزت سيارات تابعة للسلطة، رهينة للمطالبة بالإفراج عنهما.. فلماذا هذه الحملة؟
فى حين يقول الناطق الرسمى لقوى الأمن الفلسطينى، العميد أنور رجب، إن الحملة تستهدف «خارجين على القانون»، متعهدًا بملاحقتهم «فى جميع أنحاء الضفة الغربية بكل عناوينهم ومسمياتهم»، تقول كتيبة جنين، إن السلطة الفلسطينية تريد «جنين بلا سلاح مقاومة.. وبوصلتنا واضحة، وهى ضد الاحتلال فقط، وتبنينا المقاومة عن الضفة كاملة، وقد اغتالت الأجهزة الأمنية مُطاردًا من الاحتلال منذ سنوات وطفلين بريئين».. إلا أن المحلل السياسى، باسم التميمى، يُفسر ما يحدث فى جنين بقوله، إن «بعض المجموعات خرجت على النظام العام الفلسطينى، وعلى القانون والإجماع الوطنى، الذى يُحرِّم رفع السلاح بين الفلسطينيين، واستخدام السلاح كلغة للتفاهم بين الأطياف الفلسطينية المختلفة».. وفيما إذا كانت عملية مخيم جنين بمثابة عربون سياسى لخطب ودّ الإدارة الأمريكية المقبلة، قال التميمى «لا أعتقد أن القيادة الفلسطينية بصدد تقديم عربونات لإدارة دونالد ترامب.. الرئيس محمود عباس قال لترامب فى صفقة القرن لا، فكيف يُفترض أنه يُقدم عربونًا لإدارة ترامب وغيرها؟».
وخلافًا لرأى التميمى، يقول مدير مركز «يبوس» للدراسات، سليمان بشارات، إنه بغض النظر عن الملاحظات والمآخذ على المجموعات المسلحة فى مخيم جنين، والجهات التى تدعمها وسلوكها ومرجعياتها، «فإن تخلى السلطة عن فكرة الحوار والاحتضان، والانتقال لفكرة الصدام، سيولِّد إشكالية كبير لا يُحمد عقباها ولا يمكن توقع نتائجها».. إن ما يجرى، لا يمكن فصله عن الواقع السياسى للسلطة، التى تحاول «كسب المرحلة المقبلة، لأن البديل هو اندثارها، وخيار السلطة ليس سهلًا، ونتائجه غير مضمونة»، فإنها «تقرأ المشهد تحت ضغوط إقليمية وعربية ودولية».. لقد وُضِعت السلطة أمام تحدٍ، إما إثبات قدرتها على إدارة الحالة الفلسطينية، وفق التصورات الأمريكية والإسرائيلية، أو تكون على أبواب تغيير جذرى.. ومن هنا، لم يعد أمامها سوى خيار الذهاب فى هذا الاتجاه، اعتقادًا منها بأنها قد تُثبت حضورها وقدرتها على فرض السيطرة الكاملة.
أما البديل، فهو «حاضر وجاهز لليوم التالى للضفة الغربية، وهو السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وربما بأدوات فلسطينية تقبل ما يُطرح عليها».. ولا يُستبعَد وجود منعطفات خطيرة، من شأنها، ليس فقط تعزيز الفجوة والانقسام السياسى، بل إحداث انقسام مجتمعى عميق جدًا، يُذكِّر بمراحل سبقت انهيار كثير من الأنظمة السياسية العربية، التى استخدمت لغة القوة وليس الاحتضان، فى التعامل مع أى متناقضات داخلية.. لذلك، فإن المرحلة المقبلة «ستكون صعبة فى الخيارات والنتائج، وربما يتغيَّر، بناءً عليها، الكثير من العناوين المتعلقة بشكل وإدارة السلطة الفلسطينية، وإدارة الحالة الفلسطينية بشل عام».
ما يجرى فى جنين «يندرج تحت إطار الخلافات السياسية والأمنية داخل الشعب الفلسطينى، فى ظل غياب قيادة وطنية موحدة»، كما يرى المحلل السياسى، سامر عنبتاوى، لأن ثمة فرقًا فى النهج، بين مقاومين يرون أنهم ينفذون عمليات بطولية ضد الاحتلال، وطرف آخر لا يرى تأثيرًا لهم فى جانب الاحتلال، مقابل الأثمان التى تُدفع فلسطينيًا، كالحصار والتضييق الاقتصادى والإجراءات الإسرائيلية وغيرها.. وبما أن «المقاومة بكل وسائلها حق مشروع للشعب الفلسطينى»، فيجب رفض إطلاق صفة «خارجون على القانون» على الملاحقين فى مخيم جنين.. «لا يمكن اعتبار السلاح الفلسطينى الموجه للاحتلال خارجًا على القانون، لأن الشعب الفلسطينى فى مرحلة التحرر الوطنى.. هناك من يريد تصويره بهذا الاتجاه- خروج على القانون- لتبرير ملاحقاته الأمنية».. وهنا، لا يُستبعَد أن تكون عملية جنين «مرتبطة بإطار سياسى أو رؤية سياسية مقبلة»، مع الأسف، لكون السلطة «لا تزال بعيدة عن نبض الشعب.. حيث هناك فجوة كبيرة بين إدارة السلطة والتوجهات الشعبية الفلسطينية».. وإذا كان هناك «مَن يُفكر فى إمكانية تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة أو دولة الاحتلال، فى ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة تريد الاستيلاء على أجزاء من الضفة، فهو واهم!!».. فالمسار السياسى استمر عشرات السنوات، ولم يأتِ بشىء سوى خسارة الشعب الفلسطينى، فى كل المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والوطنية، وبالتالى، فإن أى تناغم مع هذا التوجه، هو تراجع فى الأداء الفلسطينى.
●●●
وبالعودة إلى الوراء.. فإن الفصائل المسلحة المُنظمة فى الحالة الفلسطينية، تُعد امتدادًا لسياقات تاريخية مرت بها القضية؛ هى من وجة نظر فلسطينيّة «مقاومة» ضد إسرائيل، التى تعتبر هذه الفصائل «إرهابية.. وتستهدف المدنيين الإسرائيليين».. وفى داخل الضفة الغربية تحديدًا، ارتبطت المجموعات المسلحة تنظيميًا وسياسيًا، بالفصائل الفلسطينية وخصوصًا الكبرى منها.
فى نهايات ما يُعرف بالانتفاضة الأولى عام 1987، ظهرت تشكيلات عسكرية مسلحة مثل «الجيش الشعبى» و«الفهد الأسود» و«صقور فتح»، وجميعها كان يتبع حركة التحرير الوطنية الفلسطينية «فتح».. ومع اندلاع ما يُعرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، عقب دخول الجنرال الإسرائيلى، أرييل شارون، باحات المسجد الأقصى، انضوت كلّ التشكيلات تحت اسم «كتائب شهداء الأقصى»، كجناح عسكرى مُوحَّد لحركة فتح.. ومع تأسيس الشيخ أحمد ياسين حركة المقاومة الإسلامية «حماس» عام 1987، طوَّرت الحركة أول جهاز عسكرى لها، بعد أن كانت عبارة عن مجموعة من الخلايا السرية، وأطلقت عليه اسم «المجاهدون الفلسطينيون».. وبحلول 1991، غيَّرت الحركة الاسم إلى «كتائب عز الدين القسام»، التى اتخذت من اسم الشيخ عز الدين القسام، الذى تصفه حماس بأنه «رمز من رموز المقاومة الفلسطينية».. ونشأت كذلك عام 1987 كتائب «النسر الأحمر»، التى كانت تُعد أحد الأجنحة العسكرية التابعة لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».. وبرز اسم «سرايا القدس» فى قطاع غزة ثم الضفة الغربية، كجناح عسكرى لحركة الجهاد الإسلامى، التى تأسست عام 1982 تحت اسم كتائب «سيف الإسلام».. ومع مطلع التسعينيات، غيًّرت قيادة «الجهاد الإسلامى» حينها، بقيادة محمود عرفات الخواجا، اسم الجناح العسكرى إلى «القوى الإسلامية المجاهدة»، التى عُرفت اختصارًا باسم «قسم»، وصولًا إلى اسمها الحالى فى مطلع التسعينيات.
احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب عام 1967.. ورغم انسحابها عام 2005 من القطاع الذى تسيطر عليه حماس، إلا أن إسرائيل أبقت على قوات عسكرية فى مدن وقرى الضفة الغربية، وزادت من عمليات الاستيطان، رغم أن السلطة الفلسطينية تتمتع بعلاقات دبلوماسية وأمنية تُوصف بالجيدة مع إسرائيل.. وقالت محكمة العدل الدولية، فى يوليو 2024، إن سياسة «الاستيطان الإسرائيلية فى الضفة الغربية والقدس الشرقية تنتهك القانون الدولى».. وشهد عام 2022 ارتفاعًا ملحوظًا فى الاشتباكات المسلحة فى مدن الضفة، التى لوحِظ فيها، عام 2022، نمط جديد من أنماط المواجهة المسلحة؛ حيث ظهرت المجموعات المسلحة الُمصغرة، التى بدأت فى شمال الضفة، وتكررت اشتباكاتها مع الجيش الإسرائيلى، وانتقلت بوتيرة أقل إلى جنوبها ووسطها.. وبرزت هذه المجموعات بالتزامن مع عمليات قتل نفذتها إسرائيل ضد «قادة ميدانيين» من الفصائل الفلسطينية.. وتصاعد المواجهة الفردية فى الضفة أو ما يُعرف بـ«الذئاب المنفردة».
تباينت المجموعات المسلحة الجديدة فى مسار تشكّلها وتطورها.. فشهدت بعض نماذجها تطورًا ملحوظًا وتراكمًا عملياتيًا، انعكس على الخبرة، والقدرة على الصمود، والتنسيق المشترك فى المواجهة، فى ظل التحديات التى تتعرض لها، فيما تراجعت بعض المجموعات، على الرغم من البداية الفاعلة لظهورها، بينما ظهر بعضها إعلاميًا ثم اختفى.. و«استطاعت المجموعات المسلحة الجديدة، البارزة منذ 2022، خلق نمط يختلف عن البنية التنظيمية للأحزاب الفلسطينية التقليدية، وشكَّلت قيادة مستمدة من الميدان - القائد الميدانى، واكتسبت حاضنة شعبية واسعة، على الرغم من حداثة نشأتها وطابعها الشبابى».. لكن الصحفى الإسرائيلى، يوآف شتيرن، يرى أن «ظهور مثل هذه الفصائل المسلحة- وإن لو لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالتنظيمات الفلسطينية التقليدية، مثل فتح وحماس والجهاد- فإن تنفيذها العمليات المسلحة واستهداف الجيش والشرطة الإسرائيلية، وربما المدنيين، أمر يشترك فيه الجميع».
وظهر نمط جديد للعمل الميدانى المشترك فى 2023؛ إذ ازداد عدد التشكيلات المُسلَّحة، وازداد تنسيق عناصرها دون إلغاء ارتباطها بتنظيماتها الأصلية، رغم انتماءاتها الفكرية المختلفة، التى تتنوع بين الفكر اليسارى الاشتراكى والشيوعى، والعلمانى ذى البعد القومى العربى، وأيضًا هناك فصائل تنتمى إلى الفكر الإسلامى، مع اختلافات فكرية فيما بينها.. وكان هذا الظهور جليًا من خلال البيانات التى تنشرها المجموعات، سواء كانت بيانات نعى لمقاتليها أو إعلان عن عمليات مشتركة وغيرها من الأمور.. كما أشار موقع «والا» العبرى، نقلًا عن ضباط إسرائيليين، «عن تشابه العبوات الناسفة التى تُزرع لاستهداف القوات الإسرائيلية فى جنين ونابلس، ما قد يعنى نقل هذه العبوات الناسفة بين جنين ونابلس».. ووفقًا لشتيرن، فإن هذه الفصائل «تتلقى دعمًا من إيران وحزب الله، وأنها تنسق وبشكل كبير مع القيادات الفلسطينية المُقيمة فى الخارج، خصوصًا فى لبنان وسوريا وقطر وتركيا».
وتشهد الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من عام، تصاعدًا فى وتيرة العنف، لكن الوضع تدهور منذ اندلاع الحرب فى غزة، عقب الهجوم غير المسبوق الذى شنّته حماس على إسرائيل فى السابع من أكتوبر 2023.. وقُتِل منذ ذلك الوقت فى الضفة الغربية أكثر من سبعمائة وأربعين فلسطينيًا، وفق وزارة الصحة الفلسطينية حتى السابع من أكتوبر 2024، فيما قُتِل ما لا يقل عن تسعة عشر إسرائيليًا، خلال الفترة نفسها، وفقًا لأرقام إسرائيلية رسمية.. وأوضح شتيرن، أن الجيش الإسرائيلى «كثَّف هجماته التى تستهدف قادة ومسلحى الفصائل فى الضفة، بعد السابع من أكتوبر، لتشمل عمليات تستمر لبضعة أيام، بعد أن كانت لا تتعدى بضع ساعات»، مستخدمًا المسيرات والمروحيات والدبابات والمدرعات وسلاح الجو وأسلحة نوعية حديثة فى هجماته.
●●●
هناك عدّة عوامل لعبت دورًا مهمًا فى توسّع ظاهرة المجموعات المسلحة الجديدة، «منها غياب الأفق السياسى، وفشل مسار المفاوضات، وأزمات السلطة المُركبة المتمثلة فى الأزمة الاقتصادية، واستمرار علاقاتها الأمنية المُعقدة والاقتصادية مع إسرائيل».. يُضاف إلى ذلك، «عدم قدرة حركة حماس على الجمع بين السلطة والمقاومة، وتركيزها على تشجيع المقاومة المسلحة فى الضفة والتهدئة فى غزة»، إذ إن حماس تحاول الوصول إلى وقف إطلاق نار فى غزة، مع صفقة لتبادل الرهائن الإسرائيليين بالسجناء الفلسطينيين، وفى الوقت ذاته، تحاول حث الفصائل فى الضفة الغربية على التصعيد، للضغط على إسرائيل نحو الصفقة التى تريدها حماس.. وهو ما قد يُفهم على أنه ازدواجية فى خطاب حماس.. هذه العوامل تتأثر أيضًا «بتصاعد وتيرة الاقتحامات للمقدسات الإسلامية والتوسع الاستيطانى والقتل والاعتقال، وتشجيع اليمين المتطرف فى إسرائيل لاعتداءات المستوطنين- غير المُعترف بوجودهم دوليًا- على المناطق الفلسطينية».
أمّا الإسرائيلى، شتيرن، فيرى أن تنامى نشاط المقاومة المسلحة فى المخيمات الفلسطينية شمال الضفة الغربية، أصبح أمرًا «يثير قلق إسرائيل»، ويعود وبشكل كبير «إلى أن هذه المجموعات المسلحة خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، التى لا تستطيع ولم تنجح فى مواجهتها.. ما جعلها تهديدًا مباشرًا على حياة الإسرائيليين»، علمًا بأن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تعتقل أحيانًا عددًا من المسلحين الفلسطينيين، «فى إطار مهمتها لحفظ الأمن فى مناطق سيطرتها»، وفق بيانات أمنية رسمية، وهو الأمر الذى «تستنكره» المجموعات والفصائل المسلحة، التى تؤكد فى بيانات رسمية، أنها «لا تريد الاشتباك مع السلطة، وأن الوجهة الوحيدة لقتالها، هى الاحتلال».. ورغم أن السلطة لا تستخدم خطابًا مُعاديًا مُعلنًا للفصائل، يبدو أنها غير قادرة على فرض سيطرتها التامة على تنامى الظاهرة المسلحة، بدليل تصاعد المقاومة فى الضفة الغربية على مدار السنوات السابقة.
●●●
والآن.. تجد المقاومة الفلسطينية فى الضفة الغربية نفسها بين شقى الرحى.. بين عدو ينتهج سياسة الإبادة الجماعية فى الأراضى المحتلة، ويريد اغتصاب ما تبقى من الأراضى الفلسطينية وطرد أهلها، وبين سلطة فى رام الله، تُقاوم المقاومة، وتُخاطر على نحو غير مسبوق، بوضع نفسها فى صدام مباشر مع الشعب، من خلال حملتها الأمنية، التى تُعد الأكبر منذ سنوات، ضد فصائل المقاومة فى جنين شمال الضفة الغربية المحتلة.
ويمكن بوضوح مراقبة التعليقات الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعى، لرصد حالة الغضب الشعبى المتنامية ضد السلطة وقيادتها، فى خضم حملتها الأمنية التى تقتل وتُلاحق المقاومين والمدنيين فى جنين.. إذ تُبدى هذه التعليقات فى أغلبها، دعمًا كبيرًا لفصائل المقاومة، وتُندد بحملة أجهزة أمن السلطة ضد المقاومة، وتُجمع على اعتبارها خدمة للاحتلال، وسط تساؤلات عن تحرك السلطة، فى وقت يسرع فيه الاحتلال ضم الضفة الغربية بكاملها للسيادة الإسرائيلية.. وما هتاف «الشعب يريد كتيبة جنين»، الذى تصدَّر مشهد المسيرات الشعبية المتلاحقة فى جنين، سوى دليل على الوضع المنبوذ للسلطة، وأن جنين ومخيمها، يمثل حاضنة شعبية لا تنكسر للمقاومة وعناصرها.. بموازاة ذلك، اعتدت أجهزة السلطة فى جنين، على مسيرة لأمهات الشهداء فى المدينة، لدعم المقاومة والتعبير عن رفضهن لعمليات الاستبداد، التى تنفذها الأجهزة الأمنية ضد المقاومين.. وقد خرجت مسيرة حاشدة من ديوان التُركمان باتجاه مخيم جنين، وشاركت أمهات الشهداء فى المخيم بالمسيرة الداعمة للمقاومة، وحاولن طرد عناصر السلطة، فيما اعتدت الأجهزة الأمنية على المسيرة، وألقت القنابل المسيلة للدموع على النساء المتظاهرات.
طوال السنوات الماضية، عمل الاحتلال الإسرائيلى على محاولة كسر هذه الحاضنة الشعبية، بتدمير منازل وتجريف الطرق وهدم المحال التجارية، فيما حاولت السلطة كذلك كسر هذه الحاضنة، ببث الشائعات عن أفراد الكتيبة وعن المقاومين، لكن دوى جدوى.. سعت أصوات السلطة الفلسطينية إلى الترويج، أن المواجهة فى جنين تستهدف عناصر من حركتى حماس والجهاد الإسلامى، وهى محاولة للتغطية على انتساب عناصر من كتائب شهداء الأقصى، المنبثقة عن حركة «فتح»، لمجموعات المقاومة المختلفة.. ويُبرز المراقبون، أن المقاومة فى جنين وشمال الضفة الغربية، تضم عناصر من فتح، يُعتبرون بمثابة متمردين على السلطة، بل هم الذين فتحوا المجال للتأكيد العلنى، لقضية وجود عناصر من فصائل أخرى فى مجموعات المقاومة.. وبحسب المراقبين، فإن مشكلة السلطة فى جنين والشمال، أن قسمًا كبيرًا من «فتح» تمرد عليها وطلَّقها بالثلاثة، وهى لا تستطيع فعل الكثير بدون حاضنتها الشعبية.
كان شمال الضفة، تاريخيًا، معقل قوى وقاعدة جماهيرية صلبة لفتح، وما حصل خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتسارع بعد السابع من أكتوبر، أن هذه القاعدة الجماهيرية انفصلت عن السلطة، واصطفت تحت مظلة المقاومة.. وفى رأى المراقبين، فإن ذلك ما دفع بعض قادة الأجهزة الأمنية، إلى التحفظ على الحملة الأمنية فى جنين، لأنهم يعلمون أنها مُخاطرة كبيرة على مستقبل السلطة، وقد تؤدى لانهيارها.. ويشدد المراقبون، على أن المقاومة فى جنين وغيرها من مدن الضفة الغربية المحتلة، هى من كل أطياف الشعب الفلسطيني، وهى تحارب من أجل إسناد غزة، ومجابهة خطط الاحتلال وجرائمه، وهو ما يتسق مع هدف الشعب والمشروع الوطنى الفلسطينى.
لذلك، فإن السلطة الفلسطينية ترتكب أخطاء قاتلة فى حملتها الأمنية فى جنين، مثل إطلاق اسم «حماية وطن»، فى تشابه لمسميات العمليات الأمنية المرتبطة بالذهن الفلسطينى عن عمليات وسياسة الاحتلال، كما يرى الكاتب، محمد علان دراغمة، الذى أوضح أن مسمى العملية الأمنية «حماية وطن»، حمَّل المستوى السياسى صاحب القرار، والمؤسسة الأمنية والجهاز التنفيذي، ما ليس بمقدورهم القيام به، للدفاع عن مخاطر جمة تواجه الوطن، وتجاهل كل الظروف الموضوعية والذاتية المحيطة.. وشدد على أن الخطاب الرسمى للمستويات السياسية والأمنية فى السلطة خلال العملية، لم يكن موفقًا، سواء من حيث لغة التحشيد، أو لغة الاتهامات، بأن المقاومين فى جنين «خارجين على القانون».
وقد يرتبط ذلك بتساؤلات المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعى، حول: لماذا تنحرف أولويات السلطة عن الدفاع عن الأرض والمقدسات وصد هجمات المستوطنين ووقف مخطط الضم، بدلًا من تركيز أسلحتها وأجهزتها فى ملاحقة المقاومين؟
إن الهدف المُعلن للسلطة، بشأن مزاعم منع الفوضى والاقتتال والفلتان الأمنى، أن يكون حلَّه سياسى وطنى وليس أمنيًا، كما يؤكد مدير مركز مسارات للأبحاث والدراسات، هانى المصرى، الذى حذر من أن اعتماد القوة يُفاقم الأمر.. إن على السلطة «أن تكف عن مساعيها لإثبات الجدارة للاحتلال وحكام واشنطن»، لإن نجاحها فى قمع المقاومة سيُضعفها وسيُغضب شعبها، وفشلها سيُضعفها أكثر، ولن يساعد فى عودتها لغزة.. إن على السلطة أن تُفرق تمامًا بين المقاومين والخارجين على القانون، فالمقاومة يجب أن تستند إلى استراتيجية وقيادة واحدة وتخضع لهما، وليست مقاومة من أجل المقاومة بل لتحقيق أهداف وطنية.
لقد استنفرت السلطة أعلى مستوياتها السياسية والأمنية إلى مدينة جنين، لا لمواجهة «إسرائيل» ومستوطنيها، إنما للقضاء على كتيبة مخيم جنين، التى بقيت عصيَّة على جيش الاحتلال منذ تأسيسها قبل أربع أعوام.. وبوحدتى العمليات الخاصة، الأعلى جهوزية فى أجهزة السلطة: «الكتيبة 101» التابعة لجهاز الأمن الوطنى، و«كتيبة أسد» التابعة لجهاز حرس الرئاسة، وغيرها من الوحدات التى لم يكشف عنها بعد، تشن السلطة عمليتها العسكرية على مخيم جنين.. وتستعين فى ذك بمئات العناصر المُلثمة، التى تحمل أسلحة الكلاشينكوف والـM16، وعشرات سيارات الجيب الحديثة شديدة التحصين، بينما طائرات مسيرة إسرائيلية ترصد سماء المخيم.. يأتى ذلك، فيما تكشف بعض مخططات الاحتلال، عن نيته إلغاء السلطة وتحويلها إلى بلديات صغيرة، تُدير بعض القرى والبلدات، ما يُعبر عن محاولات السلطة المستميتة، للنجاح فى الامتحان الإسرائيلى، متوسِلة بقاءها كشركة أمنية فى الأراضى الفلسطينية، كما يرى العديد من الفلسطينيين!!
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين