«تقزيم التنمية»
تتفاوت الأنانية والروح الجماعية فى الاتجاه، والتوجه، والوسائل والأدوات، ومقدار العطاء واستمراريته عبر مراحل النمو والتطور.
تتعارض الذاتية والأنانية مع روح الفريق والجهد الجماعى فى مهارة القيادة وفن الإدارة، والحكم الرشيد، فالسلطة لا يكف أن تُفرض ولكن لا بد من قبول السلطة لتتصف بالمشروعية، فالإدارة مهارة وليست شئونًا خاصة، وأن الممارسات الإجرائية لأنماط قيادية وإدارية بائدة لها طابع التسلط والقهر الشديد والتكتم والتعتيم وصم الآذان وغلق الأبواب لا تدوم ولن تستمر، ولا بد لها أن تنهار مهما طال زمانها.
إن معيار الشفافية معيار محل اتفاق لقياس مدى إتاحة المعلومات وبيان الإجراءات التى تعكس مستوى الرضا عن الأداء ومشروعية آلياته.
إن غياب العمل المؤسسى النزيه تعكسه زيادة الفجوة بين القائد والاتباع، وبينهم وبين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية، إذ فى الأعم الأغلب يعجز البناء الثقافى عن مد جسور الثقة بين القيادة وبين الأتباع - الشعب والجمهور- من جهة، وبين الاستجابة للتطورات والتغيرات المتلاحقة التى يفرضها التحضر المجتمعى التلقائى، والتفاعل معها من جهة أخرى، مما يؤدى إلى الجمود والانقسام، والعزوف عن مسار التصحيح والتحديث ومعالجة المشكلات ومواجهة التحديات بتوافق بين الحاكم والمحكوم.
يعتمد السلوك المتوازن فى الحكم وإدارة الشئون العامة على قدرة القيادة على المواءمة الفعالة بين التطلعات والمتطلبات، وبمقدار هذا التوازن المعتمد على الفهم الموضوعى لهذه المتغيرات والمزج التكاملى بينها يُقاس المستوى الفعلى للمنجزات التى ترتضيها الشعوب وتتقدم به الأمم.
تظل الرؤى المتعقلة سمة من سمات التفكير القيادى المرن الذى يُمكن القادة من المبادرة نحو تحقيق السيطرة والتفاعل مع ما يثير الامتعاض، بما يُقلل من أثر ما يُغيض، من خلال التنبؤ الذى يُساعد على التهيئة لتقبل مؤشرات رغبات وتوجهات الضمير الجمعى..
إن التعاون والتكامل فيما بين القائد والأتباع سمة حضارية للتقبل وتحقيق الرؤى السياسية التى تهدف إلى تحسين جوهر القيادة بممارسة الإقناع وتوحيد الجهود وحفزها برفع الروح المعنوية لأعضاء الجماعة من خلال ما توفره لهم من رعاية واهتمام واستجابة لظروف حياة ملائمة تؤدى إلى تحقيق درجة مناسبة من إشباع الحاجات بصورة متوازنة دون إقصاء لمكون على حساب الآخر.
تتزايد أهمية قبول السلطة بعيدًا عن العنف تبعًا لتحضر المجتمع ونمو وتطور مؤسساته العامة والخاصة، ودخول وخروج عناصر ملائمة لتحضر وتطور المجتمعات تُساعد فى رفع لغة الحوار المرن المفضى إلى التعايش السلمى المستمر.
يتيح مبدأ صياغة تقدير الفرص والاختيار الكفء بين البدائل، والتنبؤ بالمخاطر والتحديات على درجات تصاعدية محسوبة فى نسب النمو والتطور والتشارك والتعاون والتكامل على سلم الاستقرار الكلى للمجتمعات البشرية بعيدًا عن النزعة الفردية الأحادية التى تُقزم التنمية وتُبدد الموارد.
التفاعل بين الحاكم والمحكوم، وبين أطياف وطبقات المجتمع صمام أمان، يُعمق الأخوة، ويُمتن العلاقات، ويُكرس الشورى، ويُعمم فرص التشارك فى العطاء المتبادل بين جميع المكونات لبناء قاعدة راسخة للسلم الاجتماعى والسلام المجتمعى.
إن تحقيق التوازن بين النزعة الفردية والروح الجماعية مهمة أساسية للقيادة المتوازنة التى تنمى الشخصية السوية التى تحمل المبادأة الفردية والروح الجماعية، بعيدًا عن التسلطية والقهرية التى تُعد أبرز عوامل الفرقة والتمزق.
إن صياغة المعايير وبناء السياسات بموضوعية، وتطويرها بمنهجية سمة قيادية واعية تؤسس للسلم المجتمعى وتعمل على ترسيخ المشروعية التى يحتكم إليها الجميع فى حجية الإدارة ورشد القرار الضامن للاستمرارية والنمو والتطور، وتعميم النفع وتوسيع دائرة الإنجاز فى إطار المبادئ والقيم التى تُشكل فى مضمونها ركيزة العدل والإنصاف التى يتفرد بها الحكم الرشيد بعيدًا عن الفردية الأكثر شيوعًا فى المجتمعات النامية.
يبدو أن استشعار التهديدات وصياغة خطط مواجهتها قضايا حرجة غالبًا ما يخفق فيها الفكر التسلطى، وينتهجها الحكم الرشيد الذى يستشرف مستقبله من منظور جماعى تلتقى فيه الرؤى الجماعية فى ملامسة التهديدات والتعاون على تفاديها وخفض تكاليف مواجهتها والآثار الناجمة عنها، وتجاوزها بما يحاكيها من حكمة ورشد قيادى يمتلك زمام المبادرة والعمل التكاملى، والمهنية المستدامة، ومعالجة الاختناقات بوعى جماعى لا بنزعة فردية طائشة.
نمو التفكير الأحادى وتمجيد الفردية والرمزية بالقائد الفرد وتسطيح طموح الشعوب سلوك مقيت نتاجه تطاحن وتباغض وتمحور حول الذات، وزيادة فى التكلفة الأمنية والدفاعية، وتصاعد فى الأزمات وتكالب فى المخاطر، والمحصلة النهاية تقزيم التنمية وهدم منجزاتها كما هى الحالة السورية وقبلها العراقية. فى تصور واضح لمؤشرات دلالاتها شقاء القيادة ومجانبة العدل وغياب الحكمة وحجب مكتسبات التطوير ووسائل التحديث، والانهزام نحو نموذج العنف سارق منجزات التنميته.
إن التنمية عملية حضارية شاملة تؤدى إلى إيجاد أوضاع جديدة ومتطورة، يتسم فيها البناء التنموى بالترابط والتكامل الذى تتوزع فيه الأدوار بين القطاعين العام والخاص، ومؤسسات المجتمع المدنى، وتتسع فيه درجة المشاركة فى إنجاز القرار التنموى ومراقبة تنفيذه ومساءلة منفذيه.
مشاركة الجمهور ومؤسسات المجتمع المدنى للرقابة على تنفيذ برامج التنمية وجودة الإنجاز، وإيقاظ الرقابة الذاتية وتسخير الإعلام لممارسة وظيفته الإصلاحية والتصحيحية، وتأكيد مبدأ الحرية والمساواة فى التعامل والعدالة فى تقديم الخدمات، وتنظيم ممارسة السلطة بحق المواطنة، وبالاحترام المتبادل والاعتراف بحقوق الآخر وضمانها وترتيب الأولويات، ورفع درجة التشارك فى المسئولية والحقوق والواجبات، ومحاربة الفساد، والعمل بضمير حى وبوضوح فى الرؤى وبمنهجية فى التفكير لجعل التنمية مُكتسبًا تتوحد فيه التوجهات وتتناغم فيه الرؤى وتتعمق به الثقة، بالتسليم أن فى الواقع العربى - مهما كانت مرارة المشهد- دروسًا مستفادة لا ينبغ التفريط فيها». لا تسأل عن هالك كيف هلك ولكن اسأل عن ناجٍ كيف نجا».