الثورات العربية والميليشيات
لا أعرف إن كنا نفرح أو نحزن لقيام ثورات الربيع العربى بتسريح جيوش البلاد، التى قامت بها تلك الثورات، وإحلال الميليشيات بدلًا منها.
كانت ثورة العراق على صدام حسين أولى الدول العربية التى أسقطت جيشها، فقد قام حاكم العراق الأمريكى بول بريمر فى مايو 2003 بإصدار قرار بحل القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية التى كانت تشكل العمود الفقرى لحكم الرئيس العراقى صدام حسين، كما تقرر حل وزارتى الدفاع والإعلام والأجهزة التابعة لهما وقوات الحرس الجمهورى والمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة وتسريح مئات الآلاف من الضباط والجنود والموظفين العاملين بالمؤسسات التى يشملها القرار. كما نص القرار أيضًا على تعليق عمليات التجنيد للخدمة العسكرية وتسليم جميع الممتلكات والمبانى الخاصة بالمؤسسات التى تم حلها إلى الإدارة الأمريكية بالعراق. وأوضح البيان أن القرار يأتى فى إطار حملة نشطة للإدارة الأمريكية لإقناع الشعب العراقى بأن نظام صدام حسين قد انتهى ولن يعود أبدًا. لطمأنه الشعب العراقى على مستقبله الذى أصبح مظلمًا حتى الآن، والمعروف أن قوات داعش اجتاحت العراق بسهولة، لعدم وجود جيش نظامى قادر على المواجهة، وربما لا يعلم البعض أن أسلحة صدام حسين المتقدمة كلها اختفت فجأة، وظهرت فيما بعد فى أيدى رجال داعش، سقطت مدينة الموصل فى يونيو 2014، وأعقبتها تلعفر وسنجار ثم تكريت، فى نفس العام، وتم ارتكاب أبشع جريمة إنسانية فى التاريخ، وهى سبى النساء الإيزيديات وأخذهن جوارى ثم بيعهن، وهو ما دعا السيد السيستانى، أعلى مرجعية دينية فى محافظة النجف بالعراق، وذلك بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على مساحات واسعة فى عدد من المحافظات الواقعة شمال العراق، إلى إصدار فتوى تم على أثرها تكوين ما يعرف بجيش الحشد الشعبى. باعتباره تشكيلًا عسكريًا مستقلًا من القوات المسلحة العراقية، ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، وأصبحت تلك القوات تقدر بعشرات الآلاف وهى تشبه كتائب حزب الله فى لبنان.
ما حدث فى العراق تكرر فى ليبيا عام 2013، حيث تم حل الجيش الليبى وتكوين ميليشيات مسلحة، والتى يسعى كل منها لفرض سيطرته، وفشلت حتى الآن، كل محاولات الحكومات الليبية الانتقالية فى دمجهم داخل الجيش والقوات الأمنية الحكومية بشكل كبير، وتتفاوت التقديرات حول أعداد الميليشيات، ويتراوح عددها بين 1700-2000 ميليشيا على الأقل، فيما عدد حاملى السلاح يقدر بـ150 ألفًا فى 2012، وقد بلغ 200 ألف إلى 250 ألفًا فى 2013، وغالبية أعضاء تلك الميليشيات من الذين حاربوا القذافى، ويرفضون تسليم أسلحتهم، ويرى البعض أن الطريقة التى أدار بها القذافى الدولة عززت مجتمع القبائل، وقضت على دور الجيش كمؤسسة وطنية لحماية البلاد.
وهو ما تكرر بنفس السيناريو فى سوريا، منذ انطلاق الثورة السورية منتصف العام 2011، لم يتوانَ نظام بشار الأسد عن زجّ الجيش فى مواجهة المدنيين الثائرين ضده، ليؤسس حالة من العدائية الكبيرة بين السوريين والجيش الذى أُنفق عليه من ميزانية بلادهم وعوائد ثرواتها أكثر من 70 فى المائة من الضرائب التى يدفعونها للدولة، ما جعل الوصف المتداول لهذا الجيش هو «قوات النظام» أو «قوات الأسد».
وفى نفس التوقيت عام 2013 تشكلت ميليشيا الجنجويد فى السودان، نشأت ميليشيا الجنجويد استجابة من نظام الإخوان بقيادة عمر البشير لإعلان الكفاح المسلح من قبل جماعات من قبائل الفور والزغاوة والمساليت فى دارفور، فعملت على تنظيم القبائل ذات الثقافة العربية تحت دعوى حماية ثرواتها وأمنها من القوى التى حملت السلاح، فنجح النظام فى افتعال حرب على أساس طائفى بين مكوّنات المجتمع فى دارفور، واكتفى بتدريب قوات الجنجويد وتسليحها وتغطية الجرائم التى ارتكبتها بحق المدنيين. وفى العام 2007 انشقّت جماعة من الجنجويد بقيادة محمد حمدان دقلو احتجاجًا على عدم حصولها على المال من نظام البشير، كما وقع خلاف مع الزعيم القبلى موسى هلال، قائد الميليشيات، ما جعل نظام البشير يستبدله بمحمد دقلو، بعد أن تعهد بصرف المال عليه بأثر رجعى وتسليحه والسماح له بإعطاء الرتب العسكرية لقواته. وفى عام 2013، جرت هيكلة الميليشيات وإعادة تشكيلها بواسطة جهاز الأمن والمخابرات الوطنى السودانى بقيادة حميدتى، بعد أن رفض رئيس الأركان السودانى آنذاك نقل تبعيتها من جهاز الأمن إلى هياكل القوات المسلحة، ليجرى اعتبارها قوة نظامية منفصلة تتبع الرئيس البشير مباشرة: ومن ثم إنتاج قوة نظامية جديدة من رحم ميليشيات الجنجويد، سميت قوات الدعم السريع وتوسع نشاطها ليتعدى ولايات دارفور إلى كل ربوع السودان.
وفى أبريل 2019 تمت الإطاحة بنظام عمر البشير الموالى للإخوان المسلمين، وفى أبريل 2023 استيقظ السودانيون السبت على وقع معارك حربية فى الخرطوم ومدينة مروى ومناطق أخرى وحاصرت قوات الدعم السريع القيادة العامة السودانية وجميع المرافق الحكومية والاستراتيجية واندلعت اشتباكات بين الجيش السودانى والمتمردين فى مناطق متفرقة فى العاصمة السودانية الخرطوم وتصاعدت وتيرة الاشتباكات وانتقلت إلى مدن العاصمة الأخرى أم درمان والخرطوم بحرى.
وفى نفس التوقيت أصدر البرهان القائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية أمرًا بحل قوات الدعم السريع. وما زال السودان يعانى من توابع الحرب الأهلية بين قوات الجيش السودانى وميليشيات الجنجويد.
وهكذا سقطت جيوش أربع دول عربية من خط المواجهة مع إسرائيل، وأصبح الجيش الإسرائيلى يزأر فى الأراضى السورية بدون حساب.