هزيمة الغرب.. نبوءة تؤكدها الديموجرافيا «2»
بتصرف عن تأكيد إيمانويل تود، الذى تنبأ فى كتابه الأخير، «هزيمة الغرب» Defeat of the West، بسقوط الحضارة الغربية، لأسباب أوضحناها فى المقال السابق، فإن رجلًا آخر قال إن ذلك السقوط لحضارة الغرب هذه، يمكن تلافيه، لو حاولت الحكومات اتباع بعض الخطوات وتلافت بعضها الآخر.. وعلى موقع «New Scientist» يقدم بيتر تورشين، وهو عالم روسى أمريكى، ومتخصص فى النمذجة الرياضية والتحليل الإحصائى، تحليله، حول أفول الحضارة الغربية ومسببات ذلك، عبر دراسة الأنماط الرياضية فى النُظم المعقدة وتطبيقها على التاريخ، حيث يرى بيتر أن المجتمعات الغربية تتقدم بسرعة نحو حافة الهلاك، وأن عليها اتخاذ قرارات هامة لتجنب هذه الانهيار.. يقول: منذ أكثر من عقدين من الزمن، توقعتُ أن هذا هو ما ستؤول إليه الأمور فى نهاية المطاف، وذلك بناءً على دراسة الأنماط الرياضية فى النُظم المعقدة وتطبيقها على التاريخ.. وباستخدام هذا النهج، اكتشفتُ أن الاضطرابات السياسية العنيفة تتبع دورات زمنية معينة، إحداها تبلغ ذروتها كل خمسين عامًا أو نحو ذلك، وتصل الأخرى إلى ذروتها كل قرنين أو ثلاثة قرون.. وبتطبيق هذا النموذج على الولايات المتحدة وغرب أوروبا، فوجئتُ، بعدما أظهرت النتائج أن هذه المجتمعات تتقدم بسرعة نحو حافة الهلاك.. فى عام 2010، أشرت فى دورية Nature، إلى أن الأزمة ستتصاعد وتبلغ ذروتها خلال العقد الحالى.. وبالفعل، بعد عشر سنوات، أكدت الأدلة صحة هذه التوقعات.
استحوذ كتاب بيتر تورشين «أزمنة النهاية» End Times، الذى نشره مؤخرًا، على اهتمام النقاد والقرَّاء باستخدامهم كلمات مثل «الانهيار» أو «الثورة» أو حتى «الهلاك» لوصف محتوى الكتاب.. ومع ذلك، قد يُفاجئك عدم اعتقاد تورشين أن الانهيار أمر حتمى.. إذ يزيح بحثه الأخير الستار عن شىء مثير للاهتمام: لقد تطورت المجتمعات البشرية لتصبح أقل تعرُضًا للانهيار.. والأفضل من ذلك أن هذا الاكتشاف، قد يؤدى دورًا هامًّا فى تجاوز الأزمة الراهنة.. كما يرى.
على مدى أكثر من ثلاثة عقود- يقول تورشين: جمعتُ أنا وزملائى بيانات عن المجتمعات الماضية، وكيف ازدادت تدهورًا خلال الأزمات ثم خرجت منها.. وهو ما يُعتبر مهمة شاقة، لأنها تتطلب معلومات عن العشرات من المتغيرات القابلة للقياس، التى تصف الخصائص الرئيسية للأنظمة الاجتماعية وتحليل ديناميكياتها، أو العوامل والعلاقات التى تؤثر فى تطور المجتمعات والتغيرات فى سلوكها، على مدى فترات زمنية مختلفة.. وعندما لا تتوافر مؤشرات مباشرة-وهو ما يُعتبر شائعًا كلما عُدت بالزمن إلى الوراء أكثر-سيتعين عليك البحث عن مؤشرات غير مباشرة لتكون بمثابة بدائل.. ولحسن حظنا، نمتلك حاليًّا بيانات عما يقرب من مائتى أزمة حدثت خلال الخمسة آلاف عام الماضية.. ولبلوغ أهدافنا المنشودة، استخدمنا هذه البيانات لتجميع قاعدة بيانات تاريخية ضخمة، تسمى DB Crisis.. وبهذا يمكننا البدء فى البحث عن الأنماط والاتجاهات التى تحدث فى المجتمعات أثناء الأزمات وبعدها.. لكن خلال دراسة البيانات والمتغيرات التى تُؤثر فى المجتمعات وتُعبّد لها سبيلًا نحو الانهيار، صادفنا بعض المفاجآت، منها أن عددًا قليلًا من المُتغيرات كان كافيًا، لتحديد ما إذا كانت المجتمعات فى طريقها إلى الانزلاق نحو الهاوية.
ومن بين هذه المتغيرات التى تؤدى دورًا خارجيًّا، فقدان شرعية الدولة والضغوط الجيوسياسية والجغرافية والاقتصادية.. ومع ذلك، يتمحوَّر المؤشران الرئيسيان للأزمة الوشيكة، حول «البؤس الشعبى» أو بمعنى أصح، تدهور أو تردى حالة الرفاهية أو الظروف المعيشية للغالبية الساحقة من الشعب، بجانب «الفائض فى إنتاج الطبقة النُخبوية»، أى إنتاج المجتمع عددًا هائلًا من الأفراد الذين يسعون للانضمام إلى النخبة، يفوق عدد المناصب التى توفرها لهم الدولة.. ويرتبط كل من هذين المؤشرين بالآخر؛ فالاستياء الشعبى، الذى ينشأ نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من السكان، لا يكفى وحده لتغيير الوضع الراهن، بل يحتاج إلى قيادة وتنظيم من قِبَل فئة من النُخبة المُعارضة، أولئك الذين يسعون للنفوذ والثروة، ولكنهم يجدون صعوبة فى تحقيق أهدافهم.
على الرغم من أن الأزمات تتبع عادة نمطًا معينًا من الانهيار، فإن تحليل «تورشين» ومجموعته، يكشف أنه لا يوجد نمط قياسى للانهيار، ولا يمكن التنبؤ بكيفية حدوث الأزمات بدقة أو تطورها.. لكن لحسن الحظ، أتاحت قاعدة البيانات التاريخية الضخمة للباحثين، فرصة لتحديد مجموعة من الآثار الناجمة عن انهيار المجتمعات، ويُظهِر التحليل تباينًا هائلًا فى كيفية حدوث الأزمات.. وتُعَدُ أكثر الطرق شيوعًا لخروج المجتمعات من فترة «نهايتها»، هى الحروب الأهلية الدموية أو الثورات العنيفة، وتشمل النتائج المُحتملة الأخرى تداعيات ديموجرافية حادة، قد يتمخض عنها فى بعض الأحيان فقدان غالبية الشعب، وإطاحة الحكام أو قتلهم، وإسقاط النُخب الحاكمة عن طريق ثورة اجتماعية، أو حتى إبادتهم.. كما يمكن أن تؤدى الأزمات أيضًا إلى تجزئة الأراضى، وتدمير العاصمة أو التخلى عنها، أو سقوطها فريسة لأنياب احتلال خارجى.
لكن ما قد نسهو عنه، أن حالة الانهيار الشامل- حينما يحدث انهيار للمجتمع على أكثر من جبهة أو نواحٍ مختلفة- تُعدُّ نادرة للغاية.. وبدلًا من ذلك، قد يتركز الانهيار على جوانب محددة أو قضايا معينة، دون تأثُر جميع أوجه الحياة.. وفى بعض الحالات، ينجح القادة والشعوب فى توحيد صفوفهم والتغلب على الاضطرابات الاجتماعية، دون اللجوء إلى العنف.. فعلى الرغم من وجود عوامل قد تزيد احتمال وقوع الأزمات، فإن الانهيار الشامل للمجتمعات ليس أمرًا حتميًّا.. قبل قرنين من الزمان، اجتاحت موجة من عدم الاستقرار العالم كله.. ورغم أن الأزمات تُؤججها فى الأساس عوامل داخلية، فلن نجد- مع ذلك- بلدًا يعيش فى عزلة تامة؛ وبالتالى فالتأثيرات الأوسع نطاقًا- على غرار التأثيرات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافى- تميل إلى تحفيز الأزمات فى دول مختلفة، ولكن ليست بصورة متزامنة، بل على فترات زمنية مختلفة أو بوتيرة مختلفة.
فى أبحاثه السابقة، توصل «تورشين» إلى أن مثل «فترات الاضطراب» هذه يتكرر تقريبًا كل قرنين.. واليوم، نعيش فى خضم عصر من عصور تلك الاضطرابات، فى حين يُمكننا أن نُطلِق على الفترة السابقة «عصر الثورات»، التى بلغت ذروتها خلال منتصف القرن التاسع عشر، «بغض النظر عن أن تبعاتها استمرت حتى بداية القرن العشرين».. وعلى المنوال ذاته، سنجد أن الثورات التى وقعت عام 1848 انتشرت بسرعة فى أوروبا، واجتاحت مجموعة واسعة من البلدان، بدءًا من فرنسا ثم انتقلت إلى ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وعدد من الدول الصغيرة الأخرى.. وبدءًا من 1850 وصولًا إلى ستينيات القرن التاسع عشر، شهدت الصين وروسيا والولايات المتحدة اضطرابات كبيرة.. وبصورة أساسية، تأثرت جميع الدول الكبرى فى العالم بهذه الموجة من عدم الاستقرار، ومع ذلك، تباينت شدة النتائج تباينًا عظيمًا.
●●●
شهد البشر عدة حالات من التحولات الاجتماعية والسياسية المهمة، التى وقعت فى مختلف أنحاء العالم خلال فترة معينة من التاريخ.. فى بعض الأحيان، كانت تنتهى الأزمات بنهايات عنيفة ودموية، مثل ما حدث أثناء تمرد تايبينج- الحرب الأهلية واسعة النطاق فى جنوب الصين، التى امتدت منذ سنة 1850 إلى 1864، أثناء حكم أسرة مانشو تشينج- وأدت هذه الحرب إلى مقتل ما بين عشرين إلى ثلاثين مليون شخص؛ مما جعلها أكثر الحروب الأهلية دموية فى التاريخ البشرى.. وكذلك الحال فى الحرب الأهلية الأمريكية التى استمرت منذ عام 1860 إلى 1865، والتى تُعدُّ أشد الحروب دموية فى تاريخ الولايات المتحدة، إذ أسفرتْ عن مقتل نحو ستمائة ألف شخص.
على الجانب الآخر، تمكَّنت الإمبراطورية البريطانية، رغم أنها شهدت الكثير من الاضطرابات بين عامى 1838 و1857، من تفادى ثورة عنيفة، إذ تعاونت النُخب الحاكمة وتبنَّت مجموعة من الإصلاحات، أسهمت فى تخفيف حدة الأزمة، مثل السماح للعمال بتنظيم وتوسيع حق التصويت.. وكذلك، نجحت روسيا فى تجنب الانهيار، رغم انزلاقها إلى أزمة خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، وهزيمتها المُهينة فى حرب القِرم، التى وقعت بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية عام 1853، ونشبت نتيجة أطماع الروس فى غزو أراضٍ عثمانية والسيطرة على البحر الأسود وممراته.. بجانب كثرة الاضطرابات بين فئات الشعب الروسى.. ومع ذلك، انتهت الأمور فى روسيا بلا عنف نسبيًا، مع تبنى الحكومة مجموعة من الإصلاحات، بما فى ذلك إلغاء نظام العبودية.
يُقدّم التحليل الأخير لقاعدة بيانات تورشين، المعروفة باسم DB Crisis، رسالة إيجابية بشأن كيفية تطور الأزمات فى المجتمعات المختلفة على مر العصور.. فخلال بحثه وزملائه عن هذه القضية، خلال الخمسة آلاف عام التى شملتها قاعدة البيانات هذه، اكتشف أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن الدول والمجتمعات المُبكرة، كانت أكثر هشاشة مقارنة بتلك التى تلتها.. وتُظهِر الأنماط البيانية التجريبية، أنه كلما اقتربنا من وقتنا الحاضر، أصبحت الانهيارات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن الأزمات أقل حِدة.. أما على المستوى الكمى، فسنجد أن أحد أبعاد الانهيار، هو انخفاض عدد السكان، وهو ما يُعتبر مُبررًا، لأن حجم المجتمع قد يكون إحدى أبرز السمات الأساسية لأى مجتمع، كما أن انخفاض عدد السكان يعكس بؤسًا إنسانيًّا لا يُوصف، نتيجة لوفاة الناس جراء العنف والأمراض الوبائية والمجاعات، أو بسبب تحولهم إلى لاجئين، على سبيل المثال.
عادةً، ما تتضمن أشهر الأمثلة على انهيار المجتمعات فى الماضى، الانخفاض الحاد فى عدد السكان، ويُعتَبر انهيار حضارة «المايا» مثالًا جيدًا على ذلك،.. فبفضل التقنيات الحديثة مثل LiDAR- وهو جهاز يقوم بمسح المحيط بواسطة أشعة الليزر، ويبنى من خلال عملية المسح تمثيلًا ثلاثى الأبعاد، يعكس بدقة كبيرة أشكال وأحجام وأبعاد الأجسام فى المكان- تبيَّن لعلماء الآثار أن الغابات المحيطة بمراكز «المايا» المهجورة، كانت زاخرة فى وقت ما بالمنازل والحقول والطرق.. ومن هنا يأتى السؤال المهم: ماذا سنكتشف وراء العلاقة بين شدة الأزمات الماضية وانخفاض عدد السكان؟.
فلنعد إلى تمرد تايبينج مرة أخرى.. خلال هذه الفترة، انخفض عدد سكان الصين بنسبة 13% من 412 مليون نسمة عام 1850 إلى 358 مليون نسمة عام 1870.. وعلى الرغم من حجم هذه الخسارة، فإنها لا تعنى الكثير أمام انهيار «أسرة هان» عام 220 ميلادية.. ففى أوج قوتها وازدهارها، وصل عدد سكان السلالة إلى نحو ستين مليونًا، فى حين وصل عددهم بعد الانهيار إلى أقل من عشرين مليونًا.. ولمن لا يعرف، فإن «أسرة هان»، هى ثانى السلالات الإمبراطورية الصينية، حكمت الصين منذ 202 قبل الميلاد، إلى أن تفككت سنة 221 بعد الميلاد.. بدأت الصين فى هذا العهد، بتفضيل تعاليم كونفوشيوس من قِبل الحكومة، وشهدت الصين تقدمًا ملحوظًا فى العلم والاختراعات، مثل الورق، ويعتبر عصرها من أعظم عصور الصين، وكان آخر حاكم لها هو الإمبراطور شيان.
وبمرور الزمن، أصبح الانخفاض فى عدد السكان، الناجم عن نهاية السلالات اللاحقة فى الصين، مثل سلالات تانج، وسونج، ومينج، أقل حدة.. بمعنى، أن الأزمات الاجتماعية والسياسية التى أدت إلى انخفاض السكان، كانت أقل شدة مع كل تغيير فى السلطة ونهاية للسلالة.. أو خذ على سبيل المثال ألمانيا، فعلى الرغم من أنها شهدت ثورة عام 1848، فإن موجة عدم الاستقرار هذه لم تخلِّف وراءها تبعات ديموجرافية خطيرة، وذلك عكس الاضطرابات والفوضى السابقة التى حدثت فى القرن السابع عشر، إذ شهد ابتداءً من عام 1618، حروبًا ونزاعات مُدمِّرة، مثل حرب الثلاثين عامًا التى اندلعت فى أوروبا بدءًا من عام 1618، وأسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص وتركت بعض مناطق ألمانيا بنسبة 50% فقط من سكانها السابقين.
●●●
على الجانب الآخر، كشف تحليل تورشين، أن السبب الذى جعل المجتمعات البشرية أكثر مرونة، هو كونها أصبحت أشد تعقيدًا.. قد يبدو هذا مفاجئًا جرَّاء الفكرة الشائعة فى علم الآثار، التى تشير إلى أن المجتمعات المُعقَّدة مُعرضة بشدة للانهيار.. فى كتابه المؤثر «انهيار المجتمعات المُعقَّدة» The Collapse of Complex Societies، يجادل جوزيف تاينتر، من جامعة ولاية يوتا الأمريكية، بأن تراكم التعقيد هو الذى يُقوِّض الاستقرار، إلا أن التحليل الذى أجرته الدراسة، لا يتفق مع هذا الرأى.. والآن، نحن بحاجة إلى التمييز بين بُعدين للتعقيد، لفهم، كيف أصبحت المجتمعات أكثر مرونة مع مرور الوقت؟.
يكمن البُعد الأول فى الحجم، وهنا بالأخص نتحدث عن حجم السكان، أى عدد الأشخاص الذين تحكمهم دولة أو إمبراطورية.. ومع ذلك، توجد جوانب أخرى للحجم، مثل مساحة الدولة وعدد الأشخاص الذين يعيشون فى العاصمة والمدن الأخرى.. فمع زيادة حجم المجتمع، أصبح من الصعب على الدولة أن تحكم على نحوٍ فعال، إذ تغدو المناطق البعيدة عن العاصمة عرضة أكثر للانشقاق، ويشتعل فتيل التوترات بين المجموعات العرقية المختلفة، داخل الإمبراطوريات الكبيرة المتعددة الأعراق.. ونظرًا إلى أن حجم الدول قد ازداد منذ ظهورها قبل حوالى خمسة آلاف عام، كان من المفترض- على هذا الاتجاه- أن يجعلها ذلك أكثر هشاشة.. أما البعد الثانى من التعقيد، فسنجده يوفر اتجاهًا مُعاكسًا.. لم تتوسع الدول من حيث الحجم فحسب، بل تطورت أيضًا من حيث التعقيد المؤسسى.. ونتيجة للتنافس والصراع بينها، اكتسبت الدول أنظمة أكثر تطورًا لمعالجة المعلومات والتبادل الاقتصادى وإدارة الحُكم، وأصبحت أنظمة الإدارة والتنظيم داخل الحكومة أكثر كفاءة فى تنفيذ المهام والإجراءات.. هذا التطور فى الفعالية يُشير إلى تحسين طرق العمل، وتقليل البيروقراطية، وكذلك تطورت القيود المفروضة على الحُكام والنُخب.. وكأى شكل من أشكال التطور، يكون فى النهاية البقاء للأصلح، «أى أن الأنظمة الأكثر تكيُّفًا وكفاءة، هى من تُكتَب لها النجاة فى الغالب».
وببساطة، انهارت الدول التى فشلت فى اكتساب هذا النوع من التعقيد، وسقطت أراضيها فريسة لمنافسين أقوى.. وبالتالى فإن ما يجعل المجتمعات أكثر قدرة على مقاومة الصدمات الداخلية والخارجية، هو «التعقيد المُفيد» Useful Complexity، ويتمثل أساسًا فى تراكم التقنيات الاجتماعية، التى تسهم فى جعل المجتمعات أكثر تنظيمًا وتماسكًا على المستوى الداخلى.. وللتوسع أكثر فى هذه الفكرة، أجرى فريق تورشين مؤخرًا تحليلًا جديدًا لمجتمعات العصر الحجرى الحديث، أثناء انتشارها من آسيا عبر أوروبا فيما بين تسعمائة وخمسمائة سنة مضت.. عاش هؤلاء المزارعون الأوائل فى أوروبا فى مجتمعات مُنظَّمة بصورة مُبسطة، حيث كان لكل قرية نظام حُكم مُستقل بدون كتابة أو بيروقراطية أو حكام وراثيين، «مثل الذين أصبحوا بارزين فيما بعد خلال العصر البرونزى اللاحق».. ومع ذلك، لم تكن هذه المجتمعات مُحصَّنة ضد الانهيار الديموجرافى.. وفى كل مكان تتوافر لدينا معلومات مُفَصَّلة عن ديناميات السكان، نلاحظ أن الفترات التى تصل فيها أعداد السكان إلى ذروتها، كانت تتبعها انخفاضات حادة، قد يختفى بعدها أكثر من نصف السكان، وتُهجَّر المنطقة كلّها.
يعتقد بعض الباحثين أن التغيرات المناخية أو استنزاف التربة أو الأوبئة، هى الأسباب المُحتملة لهذه الانخفاضات الحادة فى السكان.. ومع ذلك، يشير تحليل تورشين إلى أن الصراعات العنيفة كانت سببًا رئيسيًّا لهذه الانهيارات.. وبغض النظر عن السبب، فإن الأدلة المُتزايدة تُظهر أن الانهيارات الديموجرافية لم تكن نادرة فى عصور ما قبل التاريخ.. ومع جمع المزيد من البيانات الكمِّية من مناطق مختلفة، بدأ يتضح أن مثل هذه الانخفاضات السكانية الكبيرة، كانت القاعدة وليست الاستثناء.. إن الآثار المترتبة على هذه الدراسة، إضافة إلى التحليل المستند إلى قاعدة البيانات الضخمة DB Crisis تحمل دلالات مذهلة.. فعلى مدى العشرة آلاف سنة الماضية، تطورت المجتمعات البشرية ثقافيًّا لتصبح أكبر وأكثر تعقيدًا.. خلال تلك الفترة، حاولت هذه المجتمعات، قمع العُنف الداخلى بدرجات متفاوتة.. فى البداية، لم تُفلح فى تحقيق ذلك الهدف نتيجة لهشاشتها الشديدة، وسرعان ما انحدرت إلى حروب أهلية مزَّقت الأواصر بين فئات الشعب.. لكن بمرور الوقت، تطورت تلك المجتمعات، وأقامت مؤسسات أفضل وأكثر فعالية، وهو ما زاد من قدرتها على مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية.
ونتيجة لذلك، أصبح انهيار تلك المجتمعات أقل احتمالًا.. ونظرًا إلى ضيق الوقت، لا يمكننا الاعتماد فقط على التطور الثقافى لحل أزمة انهيار الحضارات الغربية فى الوقت الحالى.. فمن خلال التحليل المُفصل لقصص النجاح السابقة، التى تمكنت فيها الدول من تجنب الانهيار والحروب الأهلية، وحل أزماتها من خلال تطبيق سياسات وإصلاحات مناسبة، يبدو بوضوح أن الأمر يعتمد فى النهاية على التحركات الحاسمة للأفراد المؤثرين فى المجتمع، كما يجب تحفيز النخب للاهتمام بالصالح العام.. ولتحقيق ذلك، يتطلب الأمر عنصرين أساسيين: ضغط من الحركات الاجتماعية الشعبية، ووجود أفراد غير أنانيين لقيادة هذه الحركات.
●●●
وخلاصة القول إنه بينما تواجه الحضارة الغربية حاليًا مشكلات خطيرة، فإن تحليل التاريخ يكشف عن طرق لتجنُب الانهيار، يكمن السر، فى تعزيز النوع الصحيح من التعقيد الاجتماعى، وخصوصًا التركيز على المؤسسات والسياسات التى تعزز رفاهية غالبية الناس وتقلل من الصراعات بين النُخب.. فمثلًا، فرض نظام الضرائب التصاعدى، الذى تزداد فيه نسبة الضريبة مع زيادة الدخل، يساعد على الحد من تكوين عدد كبير من النُخب الثرية جدًّا، ويمنع تفاقُم الفقر الاقتصادى فى بقية الشعب.. كما أن منح جميع المواطنين حق التصويت وانتخاب المسئولين العموميين، يحد من التصرفات التعسفية والأنانية للحُكام.. فعندما يكون للمواطنين الحق فى اختيار قادتهم من خلال الانتخابات، يغدو الحُكام أكثر مساءلة أمام الشعب؛ مما يقلل من احتمال اتخاذهم قرارات تخدم مصالحهم الشخصية، على حساب المصلحة العامة.
وبجانب ذلك، فإن المؤسسات التى تحمى حقوق العمال وتُقرر الحد الأدنى للأجور، مثل النقابات العمالية، تؤدّى دورًا فى تقليل الفجوة الاقتصادية بين طبقات الشعب، إضافة إلى أنه من المفترض فى الدولة أن تعزز بصورة عادلة رفاهية جميع مواطنيها.. فعندما تتبنى الدولة نموذجًا لرفاهية الشعب، فإنها تقدم خدمات ودعمًا اجتماعيًّا، لضمان حصول جميع المواطنين على الحد الأدنى من الرعاية الصحية والتعليم والسكن والدخل، وهو ما يؤدى بدوره إلى تحقيق المساواة الاجتماعية، وتقليل الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وتعزيز رفاهية جميع أفراد المجتمع.. وأخيرًا من خلال العمل المشترك بين الدول والمنظمات الدولية، يمكن التصدى لقضايا عالمية مثل تغير المناخ، وغيرها من القضايا العالمية الأخرى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.