بلاغة الارتباك والتماسك
البلاغة القديمة تستعيد عافيتها فى اللحظات المرتبكة من حياة الشعوب؛ لترمم الحوارات بين البشر، الأغنيات الجديدة لا تلبى حاجة الناس إلى الغناء، هى تعبر فقط عن الارتباك واللهاث والحيرة وفقدان الثقة فى الخطوة المقبلة، فكانت النتيجة غناء لا يحفل بجمال الصوت ولا بالمعنى بقدر حفله بجمل إيقاعية تستلهم إيقاعات بدائية تخاطب الجسد المنهك، الذى يحاول صاحبه أن ينفض التراب عن روحه المتعبة، فى اللحظات المرتبكة يعتقد البعض أن الناس فى حاجة إلى الحكمة، أو إلى وضعهم فى موضوع ما، فيتم إنتاج حكايات وفضائح وسرقات وإشاعات ونجوم على مقاس المرحلة، واختراع قضايا وحكماء وأبطال يوهمونك بأنهم يملكون إجابات حتى لا تشعر أنك بمفردك فى هذا العالم، وأنك وأنت فى بيتك مزدحم بالمسلسلات والمباريات والأخبار التى لا تسر عدوًا أو حبيبًا، البشرية اكتشفت أنها فشلت، وأنها أخطأت عندما تركت مصائر الناس فى أيدى التجار والحكام الملهمين والإعلام وأشباح العولمة، قبل سنوات قليلة عرى «كوفيد- ١٩» جسد الكوكب، وخلف خسائر فادحة ليس فقط فى الأرواح، ولكن فى قدرة الإنسان على التواصل مع من يحب، كتب التاريخ فى هذه المرة لم تقدم إجابات، لكنها أثارت الشجن، وجعلتك أكثر حيرة، لأنك اكتشفت أن التقدم الذى حدث فى كل المجالات لم يفلح فى إنقاذ البشر من وباء عابر وشرور مقيمة، أنت فى مصر كنت خائفًا مثل الآخرين على بيتك، وعلى أهلك، وعلى أحبابك، وعلى نفسك، وأضف إلى كل هذا كنت وما زلت خائفًا على شريان روحك، خائفًا على نهر النيل، الذى خط مصيرك على الأرض، خائفًا على الخضرة والنماء، على الطيبة والغناء والأعياد، تتأمل المشهد لتكتشف أن أعداءك وبعض أصدقائك اتفقوا عليك، رغم فضلك على البشرية كلها، أنت فى هذه اللحظة تدفع ضريبة نبلك بمفردك، آلاف السنين والماء يتدفق من عند الله، لماذا يعتقد الإثيوبيون الآن أن النيل نيلهم، وأن التاريخ كان مخطئًا؟ أنت مطالب الآن بالدفاع عن حقك فى الحياة، بالطريقة التى تليق، لأن التاريخ لا يرحم، أنت فى مواجهة نذالة أصدقاء وسوء نية أعداء، وإلى جانب ذلك المشكلات المتوطنة المرتبطة بالفقر والمرض وقلة الحيلة وهزال الحياة السياسية والحريات، ومع هذا تثق فى قدرة الدولة المصرية على الحسم، لأن الموضوع أكبر من الجميع، وفى التاريخ معجزات لا تحدث إلا فى مصر. فى الفترة الأخيرة وجدتنى غارقًا مع كتب التاريخ، لم أشعر أننى بعدت عن التصوف الذى ألجأ إليه حين أكون مرتبكًا وغاضبًا، صادفتنى كرامات المصريين، الزراع المقاتلين، البنائين، وأنا أقرأ: تكوين مصر لشفيق غربال، وحدة تاريخ مصر لمحمد العزب موسى، المواطنة والهوية «جدل النضال والإبداع» لسمير مرقص، سندباد مصرى لحسين فوزى، فجر الضمير لجيمس هنرى بريستد، الأعمدة السبعة للشخصية المصرية لميلاد حنا، فى أصول المسألة المصرية لصبحى وحيدة، الفكر المصرى فى العصر المسيحى لرأفت عبدالحميد، المواطنة المصرية لوليم سليمان قلادة، الشخصية الوطنية المصرية لطاهر عبدالحكيم، نشأة الروح القومية المصرية لمحمد صبرى السوربونى، قراءة هذه الكتب تجعلك أقرب إلى مصر التى تحلم بها ولها، وتشكل جدارية لأساتذة وعلماء يعرفون قدرها، ولا يظهرون فى الشاشات الغارقة فى إعلانات الاستفزاز والاستجداء، ستتأكد أنك تقف على أرض راسخة، وأنك لست بمفردك وأنت تقاتل الآن من أجل مستقبلك، حتى وأنت تشعر بالقهر بسبب الوحشية الإسرائيلية التى لم يشهد العالم مثلها طوال التاريخ ضد أهلنا فى فلسطين ولبنان، هذه الوحشية التى يباركها العالم المتحضر، الذى يعتقد كثيرون حتى الآن أنه قدوة ونموذج ينبغى أن نحتذى به، ثقتنا فى الله كبيرة، وفى تماسك المصريين فى مواجهة المخاطر المحتملة التى يخطط لها أعداؤنا، وبإذن الله سنعبر من جديد.