رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

همسات التين العجوز

أسماء محمد
أسماء محمد

للساعة السادسة صباحًا رائحة التين، تقبع شجرة التين العتيقة خلف سور الحديقة الكبيرة، تتسابق رائحة التين وزقزقات العصافير كل صباح أيهما سيصل أولًا، الرائحة تتسلل لشباك الغرفة الخلفية، الغرفة المحرمة التى لا يجرؤ أحد على دخولها. ذكية ومغرية تلك الرائحة، تبعث السكينة وطمأنينة الطفولة.

الساعة الرابعة عصرًا تفوح الرائحة أكثر وكأنها تنبئ بمجىء الغروب. الرائحة تسكن سرير أخى، تحديدًا اللحاف الكروشيه المصنوع بيدىّ جدتى، تسكن هناك وتنتظرنى. أتسلل أنا أيضًا كما هو الاتفاق الساعة الخامسة، ما إن أسمع أزيز الباب الضخم حتى أركض بقدم حافية تجاه الرائحة. للغرفة طباع حادة كأخى، كل شىء صامت قليل الكلام إلا ذلك اللحاف المتدثر برائحة التين.

أستلقى مرتعدة الأطراف على السرير، وأشد اللحاف على جسدى الصغير، وأسمع همسات التين العجوز عن حكايات الحديقة الخلفية.

أغمض عينى وأرى خطوات أمى ناحية التين تتلمسه بشغف ثم تشمه عدة مرات إلى أن يمتلئ بها، بعدها تقطفه، تربت عليه ثم تودعه إلى حين غدٍ آخر.

أسمع زقزقات العصافير المتحمسة بالأعشاش المرتفعة فوق أشجار المانجو، وأرنم مع ألحانها، وكأنها سعيدة بمجىء الصباح.

أرى رجلًا عجوزًا يقطع بمنجله أسبطة الموز ويضعها «بشواله» الأخضر، ثم يركب حماره الهزيل ويعود سريعًا إلى سريره.

أشتم الريحان المتراقص المختبئ بزوايا الحديقة، يظن أنه مختبئ، ولكنّ الرائحة تشاكسه وتفوح هنا وهناك.

أرى الجراء الصغيرة تركض بأعين ناعسة تتبع آثار نباح بعيد، تتدحرج، تسقط بجحور الثعالب فى منتصف الطريق، ثم تعاود الركض من جديد وكأن الأمل يتجدد مع تجدد سماع النباح.

النباح يقترب شيئًا فشيئًا، تلعق الأم الجراء بحب، فتطمئن ثم تسكن، تحدق صوبنا كثيرًا وكأننا دخيل على هذه الأرض، التحديق يخيفنى، التصق بأمى فتهمس: لا تخافى. أرقب نسمات الهواء المغازلة لزهرات البرسيم الناعمة تجوب الأرض المجاورة وتمنحنا بعضًا من اللطف. يتمايل البرسيم الصغير بفرح مع دغدغة نسمات الفجر، البرسيم يريح عينى ويزيدنى سكينة فوق سكونى.

البرتقال الحزين يتساقط فوق رءوسنا وكأنه يخبرنا بشىء ما، أختلس الكثير من النظرات للوراء حتى أكاد أسقط فى حين الإسراع للحاق بخطوات أمى النشطة.

رائحة البرتقال الأخضر مُرة بعض الشىء كمذاقه، مرارة ماذا يا ترى؟ بتلك السن الصغيرة لم ألق بالًا للأمر كثيرًا، كل ما كان يهم حينذاك هو عدم فقد خطوات أمى داخل الخضرة المتسعة على امتداد ثلاث أراضٍ قرب الترعة الجنوبية.

رائحة البرتقال الحزين تتباعد شيئًا فشيئًا إلى أن تنطفئ. ألمس وريقات الليمون الخضراء المنعشة فتنتعش بقايا روحى وتلتئم، أخبئ بعضًا منها لليالٍ ربما ينطفئ بها كل شىء.

انطفأ كل شىء، وأخذت الذكريات تهرب إلى الأفق البعيد هناك. هناك حيث منبع كل الذكريات والروائح الحبيبة.

أظلمت الغرفة، انطفأت الرائحة واختفى كل شىء، اللحاف، السرير، الشباك، الغرفة وأنا.

أنا الآن الشجرة العتيقة التى تسند حائط ذكريات الماضى خشية النسيان.