غفوة
فى شرفة معهد القلب القومى أدخن سيجارتى، لا لست أحد مرضى القلب.. بعد، أنتظر أبى حتى ينتهى من عمل «القسطرة»، يتصل الجد والعمات والزوجة، أطمئنهم، بصوت عادى. قلة النوم أدّت لانعدام التركيز، فلا أشعر بالقلق أو التوتر، كلاهما غير مفيد، لى وله، لا وقت لأى شىء الآن، بعد ذلك سيكون هناك كل وقت العالم للحزن.
أشرب قهوة، وأمدد على سرير «المرافق»، أغفو لعدة دقائق وأنا أقرأ، أقوم مفزوعًا على ارتطام شىء بالأرضية الباردة، لا شىء مرشحًا للسقوط فى غرفة شبه فارغة، أجد هاتفى على ألارض، مقلوبًا على وجهه، اتصال جديد جعله يسقط من على السرير. أجلس على السرير، أجيب بعينين مغلقتين تقريبًا. أنهى الاتصال بردود جاهزة تناسب هذا النوع من المواقف، ثم أنتبه أنى كنت أحلم منذ قليل. أنظر فى الساعة فأجد الغفوة لم تتجاوز الدقائق العشر- سبع دقائق تقريبًا- أعود للشرفة، أصنع لفافة جديدة وأشعلها.
جسدى يخبرنى أنه كان مع امرأة منذ قليل. يعود ذهنى للغفوة المقطوعة، أتذكر أنى كنت هناك أعانق امرأة، لا أعرف ملامحها، عادة لا أرى ملامح نساء الأحلام، لكن فى الغالب كانت فتاة الكافيتريا، آخر امرأة رأيتها قبل الغفوة. أنفث دخانًا وراء دخان، أحاول استرجاع الحلم، تذوب الصور من رأسى، ويتعاظم الشعور فى خلاياى، احتياج غير مشبع أثر انقطاع الاتصال بين كتلتين حيتين.
أطفئ السيجارة وأتأمل الأفق المفتوح من شرفة الغرفة، أحاول استحضار امرأة أكمل معها ما انقطع، خيالًا- الآن- أو حقيقة، بعد الخروج من بيت القلب هذا، وقبل أن أجد واحدة تسحبنى سلسلة جديدة من الاتصالات.
الرجل لا يزال تحت رحمة الأطباء، الأنبوب الرفيع يمرح فى شرايينه حتى القلب «حرفيًا ومجازًا»، مصرون أنتم على إقلاقى، لن أستسلم لكم، سأفكر فيما حدث أمس، عندما تحصلت على بعض المال بعد إفلاس طويل، فكرت فى عدة أمور لتلك النقود، سداد جزء من الدين، الذهاب إلى البار «وحيدًا، مع الأصدقاء، مع صديقة، أو أكثر....» شراء هدية لأمى، السفر، الفرار من هذه المدينة، فى النهاية عدت إلى غرفتى حيث أسكن وحيدًا، محتفظًا بالمبلغ القليل كاملًا، دون إنفاق قرش واحد حتى صباح اليوم.
أصوات الأقدام على أرضية الممر الرخامية خلف باب الحجرة تسحبنى من أفكارى للمرة العاشرة تقريبًا. فى هذا المكان الغريب لا أحفظ بصمة خطوات أحد، فلا أستطيع تحديد من القادم، ولا طبيعة قدومه، هل هو قادم إلى الغرفة، أم عابر فى الممر.
فى المقهى مثلًا أحفظ بصمات خطوات العاملين، هذه خطوة «حمادة»، الرجل الأسمر اللطيف، بما فيها من عرج خفيف، وهذه خطوة «رجب»، القصير كبير السن السمج- كذلك خطوته على الأسفلت المترب سمجة مثله- وهذه خطوة صبرى، نصف المجرم نصف المطحون ذون الأسنان المائلة للسواد.
كذلك أعرف خطواتهم فى البيت، أخى الصغير خطواته تطرقع على الأرض كأنها لحصان، أمى تمسح البلاط بنعل «الشبشب»، أبى خطواته صامتة، بلا صوت، تجده فجأة فوق رأسك ليضبطك متلبسًا بالجرم المشهود. أخذ الأمر منى سنوات حتى أتعلم بصمة الصمت تلك.
عند حضوره يزداد الهدوء، يتسرب الصمت بين ضجيج الشارع، صمت كثيف ودخيل على ضوضاء المدينة المتسربة من نوافذ غرفتى المفتوحة، حينها أعرف اقترابه من هذا الاضطراب فى توازن السكون والحركة، فأترك أيًا ما أفعل «صحيح، خاطئ، لا يهم» وأعتدل فى جلستى وأنتظر حضوره.
أنتبه الآن أنى أكاد أمتلك كل تركيزى، على ما يبدو أن غفوة القهوة قد آتت مفعولها هذه المرة، بعد أن خذلتنى عدة سنوات. التركيز أخبرنى أن الأمر طال، ذهب الرجل منذ قرابة ساعتين، أتردد فى السؤال عنه، هل أذهب لغرفة التمريض، أم أنتظر. هذا القلق لا مكان له هنا.
حسنًا سأذهب للبحث عن الممرضة، ولا أعلم هل سأعود أم لا؟!