رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة محمد إبراهيم أبوسنة

الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة «٨٧ عامًا» الذى رحل عن عالمنا قبل يومين، له منزلة كبيرة فى قلبى، ليس فقط لأنه شاعر كبير صاحب نبرة خاصة نقية، ولكن بسبب عدم تكالبه على أى شىء، وتواضعه ونظافة يده وثوبه. 

عرفناه أنا وجيلى قبل أربعين عامًا ونحن فى بداياتنا، عرفناه مرحبًا بالشباب، كنا نكتب شعر التفعيلة الذى برع فيه، باعتباره من الجيل التالى لرواد هذه القصيدة، وكانت الساحة الشعرية مزدحمة بعدد كبير من جيله، فكنا نلتقى بانتظام الأساتذة الكبار: فتحى سعيد، ومحمد مهران السيد، وبدر توفيق، وعبدالمنعم عواد يوسف، وغيرهم، كان محمد عفيفى مطر فى العراق، وحسن فتح الباب فى الجزائر، وأحمد عبدالمعطى حجازى فى فرنسا لأسباب سياسية. وكان شعراء السبعينيات يملأون الدنيا ضجيجًا، ولا يعترفون بهذه القامات، أو يجرون شكلهم باعتبارهم يمهدون لخلق ذائقة شعرية مختلفة. 

عرفناه وهو مذيع فى البرنامج الثانى، وكانت وظيفته تحتم عليه عدم السهر وسط صعاليك وسط المدينة من الشعراء، ولكنه كان يظهر بين الحين والآخر رفقة زميليه: القاص والمترجم شوقى فهيم والكاتب توفيق عبدالرحمن، كان قليل الكلام يفرح بالمواهب الجديدة ويفسح لها المجال فى الإذاعة لتعريف المستمعين بها، وكنا نلتقيه أيضًا فى الأمسيات الشعرية التى كانت مزدهرة آنذاك، وسعدت بالمشاركة معه فى أمسيات كثيرة فى معرض الكتاب وفى الأقاليم، كان حين يقرأ يحبس أنفاس الحضور، بسبب حالة الصدق التى تتلبسه، وكان له جمهور كبير يطلب قصائد بعينها، شعراء الثمانينيات الذين يصغرونه بربع قرن وأنا منهم كانوا يقدرونه ويعرفون منزلته على عكس السبعينيين الذين انحازوا لأصوات غريبة ليست مصرية وأقل شعرية من شعرائنا، عدم انخراطه فى الأجواء الليلية التى ميزت الحياة الثقافية جعلته بعيدًا إلى حد ما من الأضواء، وأوحت للثوريين بأنه شخص محافظ كما قال عنه أحدهم وهو يقدمه فى أمسية. 

قصيدة أبوسنة رغم انتمائها للشعر الحر تحمل تقاليد مدرسة أبوللو فى صفائها ورغبتها فى لمس المتلقى من قلبه، هو لم يدع الريادة ولم ينافس أحدًا على شىء، هو شاعر عبّر عن التحولات العنيفة فى المجتمع على طريقته الهادئة الشفافة فى القنص، وهو يقرأ قصائده تشعر بأنك أمام عاشق ولهان، حتى لو كان يكتب عن الوطن. 

توطدت علاقتى بالراحل الكبير بفضل ابن شقيقته وأحد أجمل وأنبل شعراء جيلى محمد أبوالمجد، رحمة الله عليه، وزاملته فى مجلس أمناء بيت الشعر ولجنة الشعر فى المجلس الأعلى للثقافة بعد رحيل الإخوان، وندمت أشد الندم على تقصيرى معه ومع الشاعر الكبير الراحل فاروق شوشة، والأخير اعتذرت له عن حماقة قديمة بدرت منى بسبب السياسة التى باعدت بينى وبين أشخاص عرفت قيمتهم فيما بعد.

تشعر تجاه أبوسنة بصلة قرابة بسبب الحميمية التى يتعامل بها معك، هو يعاتبك لأنك لا تسأل عنه، وفى الوقت نفسه يريد أن يطمئن عليك وعلى أحوالك وأهل بيتك، لم يشعر بأنه ظلم أو تربص به أحد، هو كان فقط يريد أن يتعرف الشباب على تجربته. كنت حين ألتقيه أقرأ له شيئًا مما أحفظه من شعره، فيفرح، من منا لم يقرأ له: «قلبى وغازلة الثوب الأزرق ١٩٦٥، أجراس المساء ١٩٧٥، ورماد الألسنة الخضراء ١٩٨٥، شجر الكلام ١٩٩٠، مرايا النهار البعيد، رقصات نيلية، موسيقى الأحلام». 

أبوسنة الذى ولد فى ١٥ مارس من عام ١٩٣٧، فى الصف بمحافظة الجيزة، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية جامعة الأزهر عام ١٩٦٤م، عمل محررًا سياسيًا بالهيئة العامة للاستعلامات فى الفترة من عام ١٩٦٥ إلى عام ١٩٧٥، ثم مقدم برامج بإذاعة البرنامج الثانى عام ١٩٧٦، وفى عام ١٩٩٥ شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافى، وعمل نائبًا لرئيس الإذاعة المصرية، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر، وعلى جائزة النيل الكبرى هذا العام، وترجمت أعماله إلى أكثر من لغة، وتناولت دراسات علمية كثيرة أعماله، ولن ينسى عشاق شعره وعشاق الشعر «قصيدته الفريدة» التى كان يطلبها جمهوره فى كل الأمسيات:

البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادى أو تُحالف؟

جازف ولا تأمن لهذا الليل أن يمضى

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضى لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدّت جميع طرائق الدُّنيا

أمامك فاقتحمها لا تقف

كى لا تموت وأنت واقف.

ألف رحمة ونور على روحه