هل تفعلها اليونسكو وتقدم حلًا غير تقليدى لدراما الشرق الأوسط؟!
(١)
الحلول غير التقليدية أحيانًا يمكنها أن تفاجئ الجميع بقدرتها على إنهاء وتفتيت المعضلات التى يعتقد الجميع أنها خارج نطاق الحل! قد تبدو تلك الحلول لأول وهلة جنونًا خالصًا أو حلمًا بعيد المنال، لكن حين تقف خلفها قوى مخلصة النوايا طويلة الأنفس متجردة لخدمة البشرية يتحول الجنون إلى المنطق الوحيد الممكن ويغدو الحلم مشروعًا!
(٢)
فى عام ١٩٠٢ انتهى الإنجليز من تشييد سد أسوان القديم، وبمجرد تكون البحيرة الصناعية خلفه فقد غرقت تحت مياهها آثار ومعابد بلغت من العمر آلاف السنوات. وقبل الشروع فى بناء هذا السد أو ما يطلق عليه الآن (خزان أسوان) اعترض الأثريون وخاضوا نقاشات قوية رسمية فى مجلس العموم البريطانى ضد الساسة أصحاب القرار. فى النهاية انتصرت رؤية الساسة فى تشييد السد والذين رأوا ضرورة بنائه لتخزين المياه وتحقيق بعض التنمية الزراعية. أى أنهم انتصروا لتوفير الغذاء مقابل الإرث الحضارى. واكتفى الجميع بإرسال بعثات أثرية فقط لمسح وتسجيل وتصوير وتوثيق هذا الإرث!
وحين بدأت فكرة تشييد السد العالى فى الظهور فى خمسينيات القرن الماضى، ثارت نفس المخاوف، ولكن هذه المرة كانت مخاوف من فقد جميع إرث مصر الحضارى الممتد من أسوان جنوبًا حتى السودان وللأبد، وليس فقد لبعض الأشهر مثلما حدث فى حالة الخزان. كان مقررًا أن نفقد معبد عمدا الذى يبلغ عمره خمسة وثلاثين قرنًا ومعابد رمسيس الثانى (أبوسمبل والسبوع وبيت الوالى والدر) البالغ عمرها ثلاثة وثلاثين قرنًا!
كان القرار شبيهًا بما حدث فى بداية القرن، أى السماح للبعثات الأثرية بتسجيل وتوثيق هذا الإرث قبل فقده للأبد! وهذا ما بدأوا فيه بالفعل وتحولت المنطقة من أسوان للسودان إلى خلايا نحل تعج بالآلاف من مختلفى التخصصات الفنية والأثرية والتاريخية من مصر ومن دول أخرى عديدة!
(٣)
وقبل البدء فى تشييد السد العالى بعامٍ واحد وتحديدًا فى عام ١٩٥٩م كانت الواقعة الأهم، حين زار القاهرة رئيس متحف الميتروبوليتان الأمريكى والتقى د. ثروت عكاشة أول وزير ثقافة مصرى وطلب منه شراء ونقل بعض هذه المعابد التى ستغرق! رفض عكاشة العرض، وغادر الرجل إلى بلاده ولم تغادر كلماتُه قلبَ ولا عقل عكاشة الذى رأى فيها استفزازًا كبيرًا، فجمع بعض الأثريين وتوجهوا لتفقد هذا الإرث فى باخرة تطوف بهذه المواقع التى كانت قد تحولت لخلايا نحل نشطة! وهو أمام معابد أبى سمبل أغمض عينيه حين اخترقه هذا الحلم، فرأى وكأن يدًا عملاقة تمتد لترفع هذين المعبدين وتعيد تشييدهما فى مكانٍ آخر أعلى بعيدًا عن مستوى المياه المتوقع!
هرول عائدًا، وقرر أن يتبنى هذا الحلم الذى بدا وقتها ضربًا من الجنون والوهم الخالصين وقبل عامٍ واحد فقد من بدء العمل فى السد العالى. تواصل مع نائب رئيس هيئة اليونسكو ونقل إليه حلمه، فذهل الرجل الذى تصادف وجوده فى دولة إفريقية مجاورة! أتى لمصر وعقد اجتماعًا لعدة ساعات مع عكاشة الذى لم يكن لديه تصور محدد لتنفيذ هذا الحلم. تحمس الرجل لحلم عكاشة وطلب منه أن تتقدم مصر بخطاب رسمى لليونسكو تطلب من خلاله مساعدة هذه الهيئة الكبرى فى إنقاذ ونقل أكثر من سبعة عشر معبدًا!
رجلٌ واحد مخلص - عكاشة - غيّر تاريخ التراث الإنسانى ولم يفكر للحظة واحدة وقتها أن حلمه هذا - حين مولده الأول - كان جموحًا بالخيال فى ذروة عنفوانه!
عكاشة هو من أقنع القيادة السياسية أن تسهم مصر بالثلث من التكلفة الإجمالية وكان هذا مبادرة لإظهار جدية مصر فى إنقاذ تراثها، فاستجاب للنداء أكثر من خمسين دولة أعلنت الموافقة والمشاركة عقب عقد المؤتمر الصحفى الأول، وأسهمت معًا لمدة عشرين عامًا لإنجاز أعظم عمل قامت به اليونسكو فى تاريخها حتى الآن!
(٤)
وأنا الآن أقدم اقتراحًا - يبدو مجنونًا وخارج نطاق العقل ووهمًا خالصًا - يمكنه - إن وجد من قادة هذا العالم الفاعلين فى منطقة الشرق الأوسط المنكوبة بجنون بعض قطاعات شعوبها آذانًا صاغية - أن ينهى معضلة الشرق الأوسط التى تحطمت عليها كل محاولات فرض السلام!
فى مفاوضات السلام التى قادت إلى اتفاقات أوسلو كانت هناك دائمًا القضية الكبرى التى يصل عندها الجميع ويتوقفون ويعجزون عن حلها! باقى القضايا - مثل اللاجئين والمياه والحدود - قابلة للحل عبر المساومات والضغوط إلا تلك القضية.. أورشليم..القدس..الهيكل..بيت المقدس.. قبر المسيح..الأقصى!
قرونٌ طويلة سُفكت خلالها دماء مئات الآلاف من يهود وعرب من الديانات الثلاث. الصليبيون سفكوا دماء عرب مسلمين ويهود معًا! واليهود والعرب المسلمون لم يتوقفوا عن الاقتتال على أبواب القدس!
وكل الجماعات الدينية المتطرفة السرية والعلنية امتطت - بالتناوب عبر العصور المختلفة – قضية الأماكن المقدسة لتهييج الشعوب واستغلالها كالقطيع لتبرير سفك الدماء!
وبعض قادة الدول فى العصور الوسطى والحديثة من أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط امتطوا هذه القضية لسرقة شرعية للحكم فى بلادهم، أو لنهب خيرات بلادٍ أخرى!
(٥)
حدث هذا رغم أن كل الديانات التى يتقاتل أتباعها تحرم سفك الدماء، ولا يوجد نصٌ دينى حقيقى غير بشرى يجعل من سفك الدم سبيلًا متاحًا للدفاع عن أماكن مقدسة!
ففى الإسلام قال النبى محمدٌ (ص) لأن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون من سفك دم امرئ مسلم!
وأحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم فى المسيحية!
وفى اليهودية التوراتية الحقيقية لا يجوز لليهود أن يتحدوا مشيئة الرب ويحاولوا فرض قرارهم على مشيئته!
وحتى الوعد المزعوم لم يحل لليهود أن يتخذوا أى أفعال على الأرض لتحقيق هذا الوعد! وإنما هى مشيئته إن أراد تحقيقها فعل، وإن لم يرد أيضًا فعل وعليهم الطاعة! ولدىّ كتيب كتبه حاخاماتٌ وفيه قالوا هذا نصًا! قالوا إن اقتراف اليهود لأى أفعال مادية على الأرض لتحقيق وعد الله بأيديهم إنما هو محاولة للىّ ذراع الرب!
أى أن تعاليم الديانات الثلاث تقدس صون الدماء، وأن الذى حدث هو أن شعوب هذه المنطقة سقطت ضحية لشراذم من الساسة ورجال الدين وزعماء الميليشيات الدموية الذين شوهوا تعاليم هذه الديانات لتحقيق أطماعهم وإشباع أحقادهم ومشاعر الكراهية والشره لسفك الدماء بما فى ذلك دماء أتباع ديانتهم من أجل تحقيق هذه الأطماع!
(٦)
لذلك أقدم هذا الاقتراح لقيادات هذا العالم وقيادات هذه الهيئة الدولية وكل منظمات السلام الحقيقية. أن تصطف شعوب الأرض خلف مشروع كبيرٍ ثانٍ تتبناه وتشرف على تنفيذه منظمة اليونسكو بتفكيك كل المعالم الدينية من مدينة القدس وتعيد تشييدها خارجها فى ثلاثة أماكن مختلفة!
مكانان فى الأرض التى تم توقيع اتفاقات دولية على أنها جزء من دولة فلسطين، أحدهما يُخصص لإعادة تشييد المقدسات الإسلامية، بينما يخصص المكان الثانى للمقدسات المسيحية!
فلقد أثبت التاريخ أن المسلمين والمسيحيين العرب فى تلك الأرض قد ضربوا أروع المثل فى التعايش سويًا وأن مكانًا واحدًا يجمع مقدساتهم لن يكون محل صراع مستقبلًا شريطة أن يتم غل أيدى صليبيى الغرب عن التدخل فى شئونهم!
بينما يكون المكان الثالث فى الأرض التى أصبحت جزءًا من دولة إسرائيل وفيه تتم إعادة تشييد حائط المبكى وبناء هيكل جديد!
أما الصخرة المقدسة فلماذا لا يتم تقطيعها وتقسيمها بين المتنازعين؟! فلكل أتباع نبى الحق فى قطعة منها بشرعية التاريخ المشترك بينهم!
(٧)
إن مجموع ما قامت بتفكيكه وتقطيعه أربع وخمسون دولة فى ستينيات القرن الماضى يفوق حجمًا وتعقيدًا ما نتحدث عنه الآن من مبانٍ لا يوجد أحدها تحت الماء أو يُنحت فى جبل!
لقد أسهمت شعوب العالم بتبرعاتها فى تلك الفترة واجتمعت على هدفٍ سامٍ وتغلبت على صراعات حكوماتها السياسية، فشاهدنا مثلًا الشعب الأمريكى يسهم بنصيب الأسد فى تلك التبرعات، وتقوم مصر بإهدائه صالة من أحد المعابد تم تشييدها فى نفس متحف الميتروبوليتان! حدث هذا فى ذروة تصاعد الصراع بين الحكومتين!
وأسهمت فرنسا المثقفة فى إنقاذ أقدم تلك المعابد - معبد عمدا - بعد سنوات قليلة فقط من مشاركة حكومتها فى العدوان على مصر! وجمع الشعب المصرى تبرعاته فى المدارس والجامعات وحفلات الغناء رغم ما كان يواجهه الشعب المصرى من تحديات وصعوبات اقتصادية كبرى!
كانت هناك آثارٌ غارقة وأخرى منحوتة فى الجبال تم تقطيعها يدويًا بسواعد رجالٍ آمنوا بسمو الهدف! حدث هذا منذ ستة عقود بما يعنيه ذلك التاريخ من تواضع تكنولوجى مقارنة بما يمتلكه العالم اليوم من إمكانات وتقنيات وكوادر هندسية وفنية!
(٨)
كان إنقاذ تراث الإنسانية هدفًا كبيرًا ساميًا! لكن أليس وضع حدٍ ونهاية لشره هذه المدينة - القدس- للدماء هو أيضا هدفٌ سامٍ يستحق أن يجتمع العالم فى سبيل تحقيقه؟!
يتصارعون ويقتتلون بزعم أنهم ينفذون أوامر الله ويدافعون عن بيوته ووعوده لهم، ويدفعون القطعان للاقتتال منذ قرونٍ حتى أصبحت هذه المدينة كما وصفتها وناجتها فرجينيا - وهى محقة فى وصفها تمامًا - فى فيلم صلاح الدين قائلة: يا قاتلة الأنبياء!
فلنقضِ على هذا الجنون ونضع حدًا له بجنونٍ مضاد لكنه جنونٌ رحيمٌ ومتعقل.. لنمنح كل طائفةٍ مقدساتها على أرضها حتى نهزم رءوس الفتنة!
لنجعلها مدينة فارغة تمامًا من أى بناءٍ، ولا نترك فيها حجرًا على حجر، ولنزرعها بأشجار الصبار، فهذا النبات بأشواكه ووجومه وكآبته هو فقط ما يليق بما عبته من دماءٍ ولم يهدأ ظمأها حتى الآن!
فلنقم للمسلمين المسجد الأموى الذى تتاجر به الطوائف والأنظمة والحكومات والميليشيات على الأرض الفلسطينية!
ولنقم للمسيحيين كنائسهم - التى سفك الصليبيون دماء آلاف الأنفس ونهبوا مقدرات الشعوب تمسحًا كاذبًا بأبوابها - خارج أورشليم حتى لا يفكر أحدهم مستقبلًا فى إعادة بعث الحملات الصليبية فى ثوبها الصهيونى الجديد!
ولنبنِ لليهود حائط مبكاهم فى تل أبيب ليبكوا هناك ويتقافزوا أمامه كيفما شاءوا!
منذ عام ١٩٤٨م فشل العالم تمامًا فى فرض وصاية دولية على الأماكن المقدسة.. فشل فى جعل مدينة الدماء تحت الإدارة الدولية.. فشل فى منح الشعوب المرتبطة بتلك المدينة وأماكنها المقدسة فرصة حقيقية للحياة!
إن هذه المدينة بكل ما فيها لا تساوى - من وجهة نظرى - حياة طفلٍ رضيع يتم سحقه بلا شفقة أو رحمة، وبما يعارض مشيئة الله وكلمته فى الأرض!
كل رسالات الأنبياء والمرسلين أتت بالسلام، وكلمة الله فى الأرض هى السلام وصون الأنفس والأرواح، فمن عمل على تنفيذ هذه الكلمة فهو يسير فى طريق الله، ومن عمل على سفك الدماء فهو يعمل ضد كلمة الله ومشيئته، مهما كذب وادّعى، ومهما حاول خداعنا بأطروحاته الدينية الأسطورية، ومهما حاول دجلًا شرعنة شره!
(٩)
فلماذا لا نتبنى - كباحثين عن سلام حقيقى - هذا القرار.. قرارًا بالقصاص من المدينة القاتلة بإعدامها كمدينة؟!
هذا الحلم يمكنه أن يصبح حقيقة على الأرض لو قرر تبنيه حكامُ العالم ممن يملكون قوة تنفيذه، ويستطيعون وضع المتشنجين من زعماء الطوائف الثلاثة الذين سيملأون الدنيا صراخًا فى مصحة عقلية كبرى حتى يتم الانتهاء من تنفيذه فيخرجون كلٌ إلى دولته ومقدساته! فهذه المصحات العقلية الجبرية هى فقط ما يليق بهؤلاء حتى تصبح هذه الأرض أكثر سلامًا واتساقًا مع كلمة الله!
لقد استغرق تنفيذ مشروع تفكيك وتقطيع أكثر من سبعة عشر مَعلمًا كبيرًا فى جنوب مصر حوالى عقدين من الزمان.. فلماذا لا نضع جدولًا زمنيًا مماثلًا ونفتح باب التبرعات فى دول العالم للانتصار على الشر المقنع بالعمامات والطواقى والعباءات متعددة الهويات والأشكال والألوان؟!
هذا العالم من الشعوب الحرة التى ضجت من مشاهد القتل والخراب يمكنها أن تفرض السلام، وأن تبادر بجمع تكلفة تنفيذ هذا الحلم فى خلال ذلك الجدول الزمنى حتى نترك للأجيال القادمة من هذه الشعوب المنكوبة بصيصًا من أمل فى حياة طبيعية تتفق وسنة الله فى إعمار الأرض بدلًا من تلك الحياة التى فرضها على أسلافهم باروناتُ الحروب غير المقدسة وغير الشريفة!
لقد فعلها الرومان فى يومٍ من الأيام، وبعد عدة سنوات من محاولات ترويض موجة جنون صهيونية مبكرة قبل المسيحية، فحكموا على تلك المدينة بالخواء، وأحالوها ركامًا.. حتى أعاد بعثها آخرون، وهم لا يعلمون أنهم لا يعيدون بعث مدينة، وإنما يعيدون بعث كائنٍ أشبه بالكائنات التاريخية الخرافية التى تتقوّت على الدماء! فهل يستطيع العالم المعاصر تصويب خطأ من أعاد بعثها مرة أخرى ويكتب نهاية حقيقية ومستحقة لها؟!