الصعيد بين مشهدين.. بقية مأساة 2 نوفمبر
ونستمر فى سرد تفاصيل مأساة سيول الصعيد التى وقعت يوم 2 نوفمبر عام 1994، وظل تأثيرها يضرب بالمجتمع المصرى لسنوات، سيطر عليها الفساد وتخللها الإرهاب.
وتوقفنا فى الجزء الأول عند تجهيز قافلة مساعدات تم تجهيزها بدعم حصلت عليه من المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وبمساهمات من شركات الأدوية وتجار شارع الأزهر وتم تجهيز القافلة بكميات من البطاطين والأدوية ومبلغ من المال تبقى معنا قبل السفر للأماكن المنكوبة.
قبل الذهاب للصعيد، جمعنا معلومات عن القرى الكثر تضررًا، وحرمت من المساعدات، وكانت أعدادها بالمئات، وكلها تقع على جانبى الهضبتين الشرقية والغربية، عدد منها حصل على مساعدات سريعة قامت بها القوات المسلحة والشرطة بإمكاناتهم الكبيرة، كما حدث لقرية درنكة التى اشتعلت بها النيران نتيجة انفجار خزانات البترول.
فكانت وجهتنا أنا ومعى زملائى من جريدة الأحرار اليومية الزميلة ماجدة إبراهيم والزميل بهاء الجرف ابن محافظة أسيوط، وكانت وجهتنا منزلنا فى مدينة أبوتيج حيث اتخذناه مقرًا للقافلة ننطلق منه إلى حيث القرى المنكوبة التابعة للمدينة أو القريبة منها فى محافظة سوهاج، وسبق هذه الرحلة علاقة صداقة أسرية جمعت بينى وبين الزميل الكاتب الصحفى خالد صلاح سمحت باستقبال شقيقتى لزوجته ماجدة إبراهيم فى منزلها ضيفة خلال أيام الجولة التى استمرت ثلاثة أيام، لتبدأ الجولة يوميًا بشراء كميات من العيش المدعم من أفران مدينة أبوتيج فكان أصحاب المخابز أكثر سخاءً فى توفيره إلى جانب شراء كميات من الأغذية الجافة من تجار الأغذية بالجملة، وجميعهم اتسموا بالشهامة، وقدموا خصومات كبيرة لصالح المنكوبين.
وكانت وجهتنا يوميًا لإحدى القرى المنكوبة بعد استئجار سيارة ربع نقل واختيار منزل لم تجرفه السيول، فالقليل منها بقى سليمًا وهى المنازل البعيدة عن مجرى السيل أو ممن تم بناؤها بالمسلح والطوب الأحمر، فقاومت قوة السيل وبقيت، بينما ضاعت معالم معظم القرى بعد جرف مياه السيل للمنازل المبنية بالطوب اللبن، أو التى كانت تقع على مجرى السيول وأسفل الجبال.
فى الغالب، حافظت بيوت الأعيان والعمد على بقائها، فكان اختيارنا لإحداها والكل كان يرحب بالقافلة، وفى معظم الزيارات كان يصادفنا وجود أطباء متطوعين كانوا يساعدوننا فى صرف الأدوية المناسبة للمرضى إلى جانب الاستعانة بشباب القرية كمتطوعين لتنظيم عمليات التوزيع التى تشمل البطاطين والأغذية والأدوية.
كانت عملية التوزيع شاقة وخطرة مع تكالب الأهالى والمنكوبين على القافلة فى محاولات للحصول على البطاطين والأغذية لقلة ما لديهم، واحتياجهم للستر وسط برك مياه وصقيع.
وعلى مدى ثلاثة أيام زرنا عددًا من القرى بين محافظتى سوهاج وأسيوط انتهت فى قرية البلايزة التابعة لمركز أبوتيج ناحية الهضبة الغربية، حيث استقبلنا فى منزله قريب لى هو الأستاذ جمال عبدالحافظ، ونظم لنا عمليات التوزيع من داخل شرفة مطلة على الشارع، وكان اليوم الأكثر تنظيمًا، حتى جاءنا خبر سقوط حائط على شقيقه، ومات فى الحال، وأصر أهل المنزل على استكمال اليوم، كما هو، وكأنّ شيئًا لم يكن، حرصًا على عدم حرمان الناس من احتياجاتهم.
الخلاصة أن الحدث بحجمه وضخامته وارتفاع أعداد المتضررين من قتلى ومشردين بطول محافظتى أسيوط وسوهاج، لم يشفع للأجهزة المحلية وقتها فى التخلى عند فسادها، فانتشرت أسواق بيع سلع الإعانات من بطاطين وخيام وأغذية برخص التراب على الأرصفة، والنتيجة فراغ فى الشارع واستغلال من قوى الشر للشباب والنتيجة الأسوأ انتشار سريع لأعداد المتطرفين والمنحرفين والإرهابيين.
ومن هنا تبرز قيمة وأهمية ما يتم تنفيذه فى الوقت الحالى من مشروعات لتطوير القرى والنهوض بها فى مقدمتها مبادرة «حياة كريمة» و«تكافل وكرامة» ومشروع «تبطين الترع» وغيرها من دعم للمشروعات الصغيرة التى تشكل فى مجملها دورًا أساسيًا للدولة ظل شاغرًا لسنوات عجاف.