يا ويل مَنْ ينسى يا ويل
مَن توعد صابه الوعيد.. ونسى أو تناسى كل شىء فـ«الألوس» تنسى عبادها، كل شىء حتى أنفسهم، وهذا الاصطلاح الرخيص الذى وضعته بين قوسين استخدمته الفنانة المصرية «مها أحمد» على منصة «تيك توك» فى زمن الفقر «فقر الفكر وفكر الفقر»، الذى ينمحى معه التاريخ وتختفى الجغرافيا ويتمكن المتلهف من الإمساك بالعملة، فيمسك بالوجهين ويصير له هو وجهان، وجه وطنى مشرف جعله يشارك فى كتابة أغنيات لها علاقة بالوطن وقاطنيه وقوته الناعمة حتى صار أحد رموزها، ووجه آخر يوليه شطر بلاد التصحر والبترودولار، والتى حرص منذ البداية على مصاهرتهم فصار صهرًا لهم ووليًا حميمًا وبدى ذلك متسقًا مع توجهاته القومية.
ولم لا، والكثير من القوميين تربحوا من تلك القوميات الفاشية قبل سقوطها وسقوط أنضمتها وأفكارها؟.. ففكرة القومية العربية أصبحت شيئًا مضحكًا عفا عليه الدهر وأكل وشرب حتى الثمالة، ولم يعد ينطلى نداء واستجداء الملايين فى أغانى مثل «وين الملايين»، والتى كانت تضج بها المراقص وتتساقط النقود على أرجل من يشدو بها، وأطفال فلسطين فى أمس الحاجة لتلك النقود التى تهدر فى الملاهى الليلية! وفى سبيل تلك القومية المدعاة لا يفرق المتربحون بين العربى والأعرابى، وينسون أيضًا أن هنالك ما يعرف بالقومية المصرية للأمة المصرية التى كانت لها لغتها الخاصة التى تدرس حاليًا فى الغرب- لا فى مصر- مع الأسف ، إذ يدرسها الأجانب لأجيال من أبناء الغرب بعد أن درسوها هم، فى حين لا يدرسها أبناء أمتنا المصرية فى المناهج الدراسية فى المدارس، كما طالب الدكتور وسيم السيسى مرارًا وكذلك للدكتور زاهى حواس وغيرهم.
وبالتالى كانت العروبة بابًا فسيحًا لجنى الثمار والأرباح والتربح من بلاد النفط والذهب الأسود، فهل لو طلبت دولة السودان أو دولة اليمن أو جزر القمر من نفس الأشخاص أغنيةً بالفصحى كانوا منحوهم لحننا وكلمات أغانينا التى تتحدث عن قوتنا المصرية الناعمة التى من ينساها يكون الويل له؟
فالدول التى ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر تنتمى للعالم العربى أيضًا ولكنه عالم عربى آخر، عالم فقير ليس فى مقدراته أو قدراته منح المال السايب كالماء الهادر القادر على هدم قيم وأخلاقيات وتاريخ وفنون حتى وصل الأمر للتلفيق والتزوير ومحاولة جعل الثوب- بعد العبث فيه وبه- لائقًا وعلى مقاس من يدفع أكثر ويهدر ماله فى شراء الذمم والنفوس والمواهب.. فتلك أشياء تشترى! نعم تشترى بأثمان بخسة وبأقل القليل.
«جوزيف موخيكا» رئيس أوروجواى السابق رفض عرضًا- لا يرفض- لأحد الأثرياء المنتمين للبادية لشراء سيارته البيتلز ذات اللون السماوى الشهيرة بمئات الملايين، لأنها رمز لبلده الاشتراكى الذى فيه رأس المال ملك للشعب، فرفض «موخيكا» العرض السخى وقال لمن يريد أن يشترى تاريخ بلاده: «إنها أشياء لا تُشترى»، وبما أن نزار قبانى قد أعلن وفاة العرب منذ التسعينيات فى آخر قصائده فأصبحت هنالك أشياء تشترى لدى هؤلاء القوميين!
والسيدة «فيروز» التى رفضت كذلك الغناء فى بلاد الأعراب لأنها أشياء لا تُشترى.. فى حين جاءت لمصر التى تعرف مقدارها وقدرها ومواهبها وهباتها الأبدية وفنها ورموزها.. فغنت تحت سفح الهرم وغنت للإسكندرية، ومثلت مع يوسف شاهين فى أفلامه وتعاونت معه ومع محمد عبدالوهاب، لأنها تعى جيدًا أن الويل لمن ينسى مصر وتاريخها وفنونها.. نعم هنالك من يستطيع أن يقول لا للملايين والمليارات وهؤلاء إبداعاتهم لا تُشترى وتاريخهم لا يُشترى.. أما المتربحون الفقراء الذين لا يملكون ولا حيلة لهم سوى المال فيهرولون صوبه ويولون وجوههم شطره حتى وإن نظروا فى إحدى المرات ناحيتنا وعزفوا لنا الألحان وتحدثوا عن بلادنا ورموزها بل وفقرائها، و«عم بطاطا» أحد تلك الأمثلة وهو المصرى الأبى كريم العنصرين القادر والصابر والراضى والمحتسب الذى يجلس على ضفة نهره العظيم منتظرًا قانعًا، ولكن إن زك بإحدى قدميه نراه يعبر سينا ويفتح عكا، وبحكمته يصبر على جار السوء.
ولكن هل «عم بطاطا» سيصبر على هؤلاء المفلسين الذين يبررون ما لا يبرر بشكل مخجل وفج ولن ينطلى على أحد؟؟
ونحمد الله على نعمة التوثيق والتأريخ، وهى إحدى وظائف الفن عامة والسينما بشكل خاص كذلك الفوتوغرافيا، فمهما سطا لص على تراثنا وفننا وقوتنا الناعمة، يظل الفيلم وتظل الأغنية- المختلف عليها من حيث القيمة أو الركاكة أو الشعبوية- مخلدين على شريط السينما بفضل المبدعين وعلى رأسهم «يوسف شاهين»، وفن السينما.. فالشريط السينمائى وبحمد الله وثيقة تاريخية عابرة للأجيال تنطق بالحق فى أزمنة الزيف.. وبعد عملية التزوير والسطو الأخيرة على إحدى أغانينا هنالك من رأى أن الغضب المترتب عما حدث مبالغ فيه.. وفى حقيقة الأمر المسألة لا علاقة لها بالغضب بقدر ما لها علاقة بالشعور بالغثيان من شيئين: الشىء الأول هو «السطو العمدى» على الفن المصرى عمومًا من ناحية، والاستسهال والتربح دون محاولة بذل أى مجهود يذكر من ناحية أخرى.
فكتابة نص جديد أو شعر جديد أو لحن جديد ليس بالشىء المستحيل مهما كان الوقت قصيرًا.. فالمال الذى يمنح لهؤلاء بدون حساب يمكنهم حتمًا من كتابة بعض الكلمات والألحان.. لذلك لا أنزع عن الجميع- فى تلك الواقعة المخزية- سلامة النوايا والمقصد.. ما حدث كان مقصودًا وكان مثيرًا للغثيان، فانقلب السحر عليهم جميعًا لتظهر الأغنية الهجين مشوهة وتصبح مثارًا للسخرية هى ومن صنعها ومن دفع من أجلها ومن استمع إليها.