(الحرب).. المؤامرة الجيوسياسية فى الشرق الأوسط (2)
تسبق سمعة بوب وودوورد كصحفى دقيق، أعماله التى اشتهر بتوثيقه الصارم لها، والتزامه بالدقة الواقعية.. وغالبًا ما تكون كتب وودوورد بمثابة روايات نهائية لأهم أحداث التاريخ الحديث، وكتاب «الحرب» الذى بدأنا تناوله بالأمس، ليس استثناءً.. وقد أثارت المذكرات التى نُشرت مؤخرًا اهتمامًا ونقاشًا كبيرًا، ويرجع ذلك فى المقام الأول إلى قدرة وودوورد التى لا مثيل لها، على الوصول إلى عمق الأحداث، وقدرته على تقديم روايات معقدة بطريقة جذابة.. وكان أحد المواضيع الرئيسية فى «الحرب»، هو المشهد السياسى المُعقد والمُتقلب فى الشرق الأوسط.. يبدأ وودوورد بالتأكيد على اللحظة المحورية، عندما زار وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فى الأراضى المحتلة فى الثانى عشر من أكتوبر، بعد أيام فقط من اندلاع «طوفان الأقصى».. وفى اجتماعهما، طرح نتنياهو ثلاثة طلبات رئيسية من الولايات المتحدة، تتمحور جميعها حول الدعم العسكرى.. حينها، أكد بلينكن مُجددًا تحالف أمريكا الثابت مع إسرائيل، وطمأن نتنياهو بالتزام الولايات المتحدة.. وقد مهد هذا التبادل الطريق للقصف اللاحق لغزة، وهو ما يكشف بوضوح ديناميكيات القوة الصارخة التى تلعب دورها.. وكانت الصواريخ الأمريكية التى دكت بعد ذلك قطاع غزة، بمثابة شهادة على التحالف الراسخ، الذى قام وودوورد بتحليله بدقة.
يحتل الصراع فى غزة جزءًا كبيرًا من رواية وودوورد.. إنها بمثابة خلفية، يتم على أساسها فحص الدوافع الجيوسياسية لمختلف الجهات الفاعلة الدولية.. وتكشف المذكرات كيف أدى الحصار المفروض على غزة، إلى قطع أى دعم خارجى، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.. ومن بين هذه الاكتشافات العديدة، يبرز أمر واحد: اغتيال إسماعيل هنية فى طهران، والذى دبرته القوات الصهيونية.. وقد أثار هذا الاغتيال، رد فعل كبيرًا من جانب الرئيس الأمريكى، جو بايدن.. ليس بسبب القلق من الخسائر فى الأرواح، ولكن بسبب الخوف من أنه يضر بالصورة العالمية لإسرائيل، التى رعتها وسائل الإعلام الأمريكية بعناية.. وسلطت محادثة بايدن مع نتنياهو الضوء، على التوازن الدقيق الذى تحاول الولايات المتحدة الحفاظ عليه.. وبينما أدان بايدن الصورة المشوهة الناجمة عن الاغتيال، طمأن نتنياهو فى الوقت نفسه، بأن أمريكا ما زالت ثابتة على دعمها لإسرائيل.. وقد برر نتنياهو الضربة، بأنها مناورة استراتيجية لتحصين موقف إسرائيل التفاوضى.. هذه المحادثة بين الثنائى، تلخص الرقصة الدبلوماسية المعقدة التى يكشفها وودوورد.
ويتناول وودوورد أيضًا ردود أفعال الزعماء العرب الرئيسيين تجاه الأزمة المتكشفة.. وتكشف زيارات بلينكن للدول العربية المجاورة عن مواقف متباينة، تتراوح بين الدعم الضمنى والإدانة الصريحة لحركات المقاومة.. يبرز العاهل الأردنى، الملك عبدالله الثانى، كشخصية تسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق.. وفى حين حذر الصهاينة من احتمال حدوث اضطرابات تقودها جماعات، مثل حماس، إلا أنه لم يتمكن من اتخاذ موقف قوى علنًا، دون المخاطرة برد فعل عنيف من شعبه.. هذه الازدواجية عند بعض القيادات العربية، تسلط الضوء على الطبيعة السائدة للتسوية السياسية فى المنطقة.. وفى قطر، تكشف محادثات بلينكن مع الأمير تميم بن حمد، بعدًا آخر للعبة الشطرنج الجيوسياسية.. إذ أن دور قطر، كمضيف لقادة حماس وسط الصراع المستمر، يوضح المواقف الدقيقة للدول التى هى فى الوقت نفسه حليفة لكل من الولايات المتحدة وحركات المقاومة.. وتمتد رواية وودوورد إلى ما هو أبعد من الأحداث المباشرة فى غزة، حيث تقدم تفاصيل التداعيات الأوسع على الجغرافيا السياسية فى الشرق الأوسط.. وتعرب السعودية، ممثلة فى وزير الخارجية، فيصل بن فرحان، عن قلقها إزاء العدوان الصهيوني.. ومع ذلك، فإن هذه المخاوف تقترن بالمصالح الاستراتيجية، حيث يسعى السعوديون إلى وضع أنفسهم بشكل إيجابى فى مفاوضات ما بعد الصراع.. إن تحقيق التوازن بين إدانة العنف والحفاظ على النفوذ الجيوسياسى، هو موضوع متكرر فى تحليل وودوورد.. وتؤكد دولة الإمارات العربية المتحدة دعمها لإسرائيل، والدافع الخفى كما وصفه وودوورد هو قمع أى عودة للحركات الشبيهة بالربيع العربى، والتى قد تهدد استقرار أنظمتها، ويعكس النهج العملى والساخر الذى تتبناه الإمارات تحولًا أوسع نطاقًا نحو السياسة الواقعية فى المنطقة.
●●●
إن دراسة وودوورد لجولات بلينكن فى الشرق الأوسط، لا تتوقف عند التداعيات الإقليمية؛ بل استكشاف التداعيات العالمية.. وبالعودة إلى الولايات المتحدة، يتصارع القادة السياسيون مع التداعيات الداخلية لسياساتهم الخارجية.. إذ تواجه إدارة بايدن انتقادات من جبهات مختلفة، حيث يشير المنتقدون إلى الخسائر الإنسانية الناجمة عن الصراع فى غزة، بينما يشيد المؤيدون بالتحالف الثابت مع إسرائيل.. ويجسد وودوورد هذا الانقسام بمهارة، ويقدم رؤية متوازنة للضغوط الداخلية التى تشكل السياسة الخارجية للولايات المتحدة.. وتضيف الاستجابات الأوروبية لأزمة غزة طبقة أخرى من التعقيد.. يوثق وودوورد كيف أن الزعماء الأوروبيين، رغم إعرابهم عن مخاوفهم الإنسانية، يشعرون بالقلق إزاء اتخاذ مواقف قد تُنفِّر الولايات المتحدة أو تتعارض مع دساتيرهم.. ويؤكد هذا السير على الحبل المشدود، على الترابط الجيوسياسى الذى يحدد العلاقات الدولية المعاصرة.
كتاب «الحرب» لبوب وودوورد أكثر من مجرد مذكرات.. إنه دروس متقدمة فى التحليل الجيوسياسى، من خلال التوثيق الدقيق والتعليقات الثاقبة، إذ يكشف وودوورد الشبكة المعقدة من السياسة والسلطة والتأثير البشرى، التى تحدد الشرق الأوسط الحديث وعلاقاته مع القوى العظمى العالمية.. إن الكشف فى «الحرب»، يجبر القراء على إعادة النظر فى فهمهم للعلاقات الدولية.. وبينما يسلط وودوورد الضوء على أروقة السلطة الغامضة، فإنه يتحدانا للتفكير فى التفاعل المُعقد بين الأفعال والدوافع التى تشكل عالمنا.. ومن خلال القيام بذلك، فهو يعزز إرثه، كواحد من أكثر الصحفيين تأثيرًا فى عصرنا، والذى يستمر عمله فى إثارة الفكر وإلهام التغيير.. ومن خلال تشريح التفاعلات الدقيقة بين الشخصيات السياسية الرئيسية وآثارها بعيدة المدى، يقدم بوب وودوورد موردًا أساسيًا لأى شخص، يسعى إلى فهم البيئة الجيوسياسية المعاصرة.. ويُعد كتاب «الحرب» بمثابة تذكير صارخ، بالتأثير المنتشر للقوة والمكائد الخفية التى تحرك الأحداث العالمية.. من خلال هذه المذكرات، يدعونا وودوورد إلى النظر إلى ما هو أبعد من العناوين الرئيسية، والتعمق فى القصص التى تشكل واقعنا.
لقد مرت ثلاث سنوات منذ آخر كتاب لبوب وودوورد، يروى فيه ألعاب القوة التى تمارسها النخبة فى واشنطن، وهى فترة ليست طويلة، خصوصًا بالنسبة لمؤلف يبلغ من العمر واحدًا وثمانين عامًا.. ولكن كتابه الأخير، «الخطر»، الذى نُشر عام 2021، كان ثالث كتاب له فى غضون نفس العدد تقريبًا من الأعوام، بعد كتابى «الغضب» و«الخوف».. ولكن لماذا هذا التباطؤ؟.
ربما كان ينتظر حتى تتضح خطوط الحبكة.. فقد شكلت آخر ثلاثة كتب له، ثلاثية عن رئاسة دونالد ترامب العاصفة وغير المحتملة.. والآن لدينا كتاب «الحرب»، الذى يتحدث عن ولاية جو بايدن حتى الآن، إذ قطع وودوورد القصة فى يوليو الماضى، بقرار بايدن عدم الترشح لإعادة انتخابه.. ومع ذلك، بالمقارنة مع الكتب السابقة، فإن هذا الكتاب الأخير أكثر إثارة للاهتمام فى بعض النواحى، وإن كان أقل إثارة بعض الشىء، وهو يقدم سردًا أكثر تماسكًا، وإن كان بعيدًا عن التماسك الكامل.
●●●
شغل الشرق الأوسط الجزء الأكبر من الكتاب، بما فى ذلك المشاهد الأكثر دراماتيكية، وأقرب ما يصل إليه وودوورد من تحليل لاذع، «هل أجرؤ على استخدام كلمة «أ..»؟».. إن القصة التى يسردها الهجوم الذى شنته حماس فى السابع من أكتوبر، والضربات المضادة الإسرائيلية المفرطة، والمحادثات التى كانت مثمرة فى البداية، ثم عقيمة، بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وتوسيع نطاق الحرب لتشمل حزب الله والحوثيين وإيران ستكون مألوفة لأى متابع للأخبار.. لكن وودوورد يشرح الصراع العسكرى والسياسى، ويضيف التفاصيل.
إن إحباط بايدن الطويل الأمد تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، معروف جيدًا.. هنا تم إضفاء طابع درامى على هذا الإحباط.. يقول بايدن فى بداية محادثة هاتفية، بعد أن قصفت إسرائيل هدفًا فى بيروت: «ماذا بحق الجحيم يا بيبى؟».. ويقول لصديق، بعد أن تجاهل نتنياهو مرة أخرى، توسلاته لتقليل الخسائر المدنية فى غزة: «إنه رجل سيئ للغاية.. إنه كاذب للغاية».. فى أحد أيام السبت بعد الظهر، اتصل بصديق لتفريغ غضبه: «لقد أمضيت ما يقرب من خمس ساعات ذهابًا وإيابًا، ذهابًا وإيابًا على الهاتف، مع اثنين من أكبر الأوغاد فى العالم، بيبى نتنياهو ومحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية.. أكبر الأوغاد فى العالم»!.. ولكن وودوورد يتجاوز هذه الحكايات الرائعة، التى يمكن للمرء أن يتخيله يضع خطًا تحتها ثلاث مرات، بعد نسخها فى دفتر ملاحظاته.. كما يفعل شيئًا أهمله كثيرًا فى الكتب السابقة: فهو يقدم السياق.. فعلى الرغم من كل تعبه، رفض بايدن التوقف عن إمداد إسرائيل بالأسلحة لأنه يعلم أنه إذا اتخذ هذه الخطوة، فإن الدعم الأمريكى للدفاع الأساسى لإسرائيل عن حقها فى الوجود سيبدو متذبذبًا، وأن إيران ستعتبر قطع الإمدادات إشارة للتصعيد.
فى الوقت نفسه، يصف وودوورد المعضلات التى يواجهها زعماء الدول العربية السنية المجاورة لإسرائيل.. يرسل بايدن نائبة الرئيس، كامالا هاريس، فى جولة للتحدث مع هؤلاء القادة، وتستنتج فى تقرير أن جميعهم يتحفظون على حماس ويرغبون فى تحسين العلاقات مع إسرائيل التى يرونها حليفًا قويًا فى تنافسهم الرئيسى مع إيران ووكلائها الشيعة لكنهم لا يستطيعون قول ذلك دون تنفير شعوبهم، الذين يأخذون الخطاب المؤيد للفلسطينيين على محمل الجد أكثر من القادة؛ ولا يمكنهم تعميق العلاقات مع إسرائيل حتى يتحقق السلام فى غزة، وعلى الأقل، ذريعة لاستئناف المحادثات نحو دولة فلسطينية.. وعلى نحو مماثل، يقول بريت ماكجورك، المبعوث الرئيسى لبايدن إلى الشرق الأوسط، لوودوورد، إنه خلال محادثات وقف إطلاق النار، وافق زعماء حماس السياسيون الذين يعيشون فى قطر أو مصر على صفقة عدة مرات، ولكن كان عليهم الحصول على موافقة من زعيم حماس الحقيقى، يحيى السنوار، الذى ظل فى أنفاق غزة والذى رفض كل المبادرات.
ربما كان وودوورد يأمل فى إنهاء الكتاب بالألعاب النارية الاحتفالية باتفاق السلام، خصوصًا أن بعض مصادره، وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتونى بلينكين ومستشار الأمن القومى جيك سوليفان، أخبروه بما كانوا يخبروننا به على مدى الأشهر القليلة الماضية: أنهم كانوا قريبين للغاية من التوصل إلى اتفاق.. ولكن هذا لم يكن ليحدث، ويشير وودوورد إلى أن بايدن كان يعلم ذلك.. ففى وقت سابق من هذا العام، بعد عودة بلينكن من إسرائيل، متحمسًا لأن نتنياهو بدا على وشك قبول تسوية، تجاهل بايدن الفكرة.. وقال لمساعده القديم: «أوه، هيا، لا توجد طريقة يمكنه من خلالها القيام بما هو ضرورى الآن».. وكما يقول وودوورد، «كان كاشف الهراء لدى بايدن يومض باللون الأحمر».
وهكذا يترك وودوورد الأمور إلى الكتاب التالى، حيث إما أن يستأنف دونالد ترامب هياجه ضد البلاد والعالم، أو تتولى هاريس زمام الأمور.. ربما كان على وودوورد إعادة كتابة فصوله الأخيرة، بعد تولى هاريس منصب المرشحة الديمقراطية.. ويشير إلى أن بايدن أدرج هاريس فى «كل» مكالماته تقريبًا مع نتنياهو، وأرسلها فى مهام دبلوماسية بعيدة كل البعد عن التفاهة، ليس فقط إلى الزعماء العرب السُنة ولكن أيضًا إلى الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون.. ولكن إحدى رسائل هذا الكتاب، هى أن العالم، وخصوصًا الشرق الأوسط، مكان فوضوى، ولا تملك أى دولة حتى القوى العظمى السابقة الكثير من النفوذ على الشرق الأوسط.. بايدن وشعبه موهوبون وحسنو النية، لكنهم لم يتمكنوا من إبرام الصفقة.. ومن يدرى ماذا سيحدث فى التالى؟.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.