رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة فى الأنفوشى

حسين عبدالبصير
حسين عبدالبصير

ذات مساء هادئ بشاطئ الأنفوشى العتيق، كانت قوارب الصيد تأرجحت تحت ضوء القمر الخافت. تتصاعد روائح السمك الطازج الممزوجة بالملح والرطوبة، وتملأ الأزقة الضيقة حول حلقة السمك، حيث التف الصيادون والتجار. هبت رياح باردة من البحر المتوسط. جعلت الظلال تمتد على الجدران القديمة، التى بدت كأنها تهمس بأسرار الماضى.

دخل شاب غريب الهيئة إلى الحلقة، حيث تناثر الرجال فى مجموعات، يتبادلون الكلمات المكتومة والإيماءات السريعة. أزاح الشاب جلبابه الرث، وجلس على أحد الصناديق الخشبية قرب البوابة الخلفية. راقب الحركة بصمت، وكأنه ينتظر شيئًا. كانت عيناه تلمعان بلون الانتقام فى الظلام، ووجهه يحمل ملامح باهتة غير واضحة، بينما أنامله النحيلة تلاعب شفرة سكين صغيرة لامعة.

انتبه إليه «يوسف»، الصياد العجوز، الذى طالما شهد تعاقب الأجيال فى هذا المكان. تقدم نحو الشاب ببطء. يصدر حذاؤه الجلدى المهترئ صوتًا خافتًا على الأرضية الحجرية. توقف يوسف، ونظر فى عينىَّ الشاب مباشرة، وسأله: «أنت مش من هنا، صح؟». هز الشاب رأسه دون أن ينطق بأى كلمة، ثم أشار بيده نحو صندوق السمك الممتلئ إلى جواره. وقال بصوت مبحوح: «كنت مستنى حد».

ظل يوسف يراقب الشاب، محاولًا فك شفرة هذا الوجه الغامض. مد يده إلى جيبه وأخرج سيجارة قديمة. أشعلها وهو ينظر إليه بعينين مليئتين بالحذر. «فى حلقة السمك، يا ابنى، الكل ليه دور. محدش بيجى هنا من غير سبب. إيه السبب اللى جابك؟». 

لم يجب الشاب فورًا، بل اكتفى بتفحص ما يدور حولهما، حيث كانت الحركة مستمرة بلا انقطاع. ثم همس: «هيجى الليلة. وده آخر يوم ليه». شعر يوسف بشىء ثقيل يضغط على صدره، لكنه حافظ على هدوئه، وقال: «مين اللى هيجى؟». 

أجاب الشاب دون أن يرفع نظره: «اللى سرق منى كل حاجة».

فى تلك اللحظة، صرخ رجل من الطرف الآخر للحلقة، وأشار إلى مجموعة من الرجال يدخلون المكان بحذر. كانت خطواتهم ثقيلة، وأيديهم محشورة فى جيوب جلاليبهم. يتقدمهم رجل ضخم بملامح قاسية وجبهة مشدودة. لمح الشاب الرجل على الفور، واعتدل فى جلسته وكأنه تحول فجأة إلى حيوان مفترس يتأهب للانقضاض.

تراجعت الأنفاس، وتقلصت المسافات بين الأشخاص فى الحلقة. أدرك الجميع أن ثمة شيئًا غير طبيعى يحدث. قال يوسف بصوت منخفض: «ما تفكرش فى أى تهور، هنا الكل شايف».

رفع الشاب شفرة السكين قليلًا، بحيث انعكست الأضواء الباهتة على سطحها اللامع. ثم قام فجأة من مكانه. واتجه نحو الرجل الضخم. تحرك بسرعة، وكأن الشوارع المظلمة وشبكة الأزقة تدفعه دفعًا. لم يلحظ الرجل الضخم اقترابه إلا متأخرًا، حين صرخ أحدهم من الخلف: «خلى بالك!».

دوى صوت التصادم فى الهواء. تحركت الأجساد فى حالة من الذعر، وسقطت صناديق السمك محدثة ضجيجًا مرتفعًا. قبض الشاب على عنق الرجل الضخم، غرز شفرة السكين فى صدره بحركة سريعة وعنيفة. ارتسم على وجه الضحية تعبير من الصدمة والرعب قبل أن يسقط على الأرض مغشيًا عليه.

صرخ الحاضرون، وتراجعوا إلى الوراء، لكن لم يجرؤ أحد على الاقتراب من الشاب الذى وقف فوق الجثة، يتنفس بصعوبة. سقطت قطرات الدم على الأرضية الحجرية، وامتزجت برائحة السمك. نظر الشاب حوله، والتقى بعينىَّ يوسف، الذى كان لا يزال واقفًا، صامتًا. اندفع رجال الشرطة إلى الحلقة. بدأت الفوضى تتصاعد. ألقوا القبض على الشاب دون مقاومة تُذكر. أوقفوا حركته وقادوه إلى خارج المكان، بينما تابع الحاضرون المشهد فى حالة من الذهول. لم يكن هناك ذهول فى عينىَّ يوسف، بل كان هناك فهم عميق. كان كل شىء متوقعًا.

عثر رجال الشرطة على رسالة قديمة فى جيب الرجل القتيل الضخم. كانت الرسالة من الشاب، يخبره فيها بأن لقاءهما الليلة سيكون الأخير، وأنه سيأخذ ما سُرق منه، ليس المال أو السمعة، بل العدالة.

خرج يوسف من الحلقة. يدخن سيجارته. وقف يراقب الأمواج المتلاطمة على شاطئ الأنفوشى. لم تكن هذه المرة الأولى التى يشهد فيها الحلقة وهى تغرق فى الظلام. ولن تكون الأخيرة. فى هذا المكان، تبقى الأسرار خفية. وتأتى العدالة أحيانًا متأخرة، لكنها فى النهاية تأتى.