رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ريشة بن قرطاس

مصطفى سليمان
مصطفى سليمان

مع دقات منتصف الليل يدخل السيد رئيس اللجنة المختصة حجرة مكتبه، ينظر من النافذة لوجه الليل، يمد يده لملف ضخم هامسًا: 

ملف ريشة بن قرطاس وملاحظات اللجنة المختصة. 

يتكون من مئات الصفحات بعضها منذ سبعة آلاف سنة والآخر لعصور مختلفة، آخر مائة ورقة معنونة «ريشة بن قرطاس وهوامش عصرية» ومصنفة رواية، يدخل الحارس حاملًا فنجان القهوة، يضعها على وجه المكتب، يشير له بالانصراف، يضع معطفه على ظهر مقعد، يضع ساقًا على الأخرى، يتصفح الأوراق القديمة بسرعة متحدثًا لنفسه: 

حفظتها عن ظهر قلب. 

تتوقف عيناه على عنوان الرواية، خطوط وكلمات بمداد أحمر تتقاطع مع سطورها. 

أسلم روايتى للموظف المختص، ابتسامته بلون السجائر والقهوة قال: 

ـ أنتظر شهرًا.

أجرى خلف الأتوبيس، أسترجع المقطع الأول منها.

«يصرخ كبير العسس: 

ـ أريده حيًا أو ميتًا، إنه كفر بآلهتنا. 

يمتطى مع رجاله الجياد، يقرأون سطره الأول منقوشًا على صخرة جبلية، من آيات الله «لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد».. يحرقون الخيام، يسبون النساء، يبيعون الصغار، يستشير كبيرهم كاهنة المعبد، قالت: 

ـ لن تنال من ريشة بن قرطاس. 

بضربة سيف واحدة أطاح برأسها، تضحك وهى تتدحرج على الأرض». 

يدخل صديقى، تكلم. 

ـ قالت: أحبك. 

يغنى فى عشق «أعطنى حريتى أطلق يدىَّ، إننى أعطيت ما استبقيت شيئًا».. يشعل السيد رئيس اللجنة سيجارة، يقرأ صفحة أخرى. 

أسأل الموظف فأجاب: 

ـ فُقدتْ، هل لديك نسخة أخرى؟

عند صعودى درج البيت رأيتهما متعانقين، يلحق بى صديقى وأنا أفتح النافذة لأشم هواء رطبًا. يلقى بنفسه على السرير شابكًا أصابعه أسفل رأسه. 

ـ الحواجز بيننا كثيرة. 

أصرخ فيه: 

ـ ابن قرطاس حطم كل الحواجز. 

يزعق: 

الكتب أكلت دماغك. 

ينصرف غاضبًا، استلقى مكانه، عيناه نقشتا فى السقف سطورًا فرعونية، هى المقطع العاشر من روايتى «(أشهروا السيوف يا أهل الوطن، قاتلوا الغزاة ذوى الوجوه النارية).. يفتشون عنه فى شقوق الكواحل، فى النهود اليابسة، بعد حين يرحلون على سفنهم، رأوه فوق جبل يمتطى صهوة جواده، يلوح ببريق النصر، ظل كبيرهم يضحك بلا وعى إلى الآن»! 

ينتفض السيد على دقات الساعة الثانية، قارئًا تحليل السرد وماهيته، الحالة الأولية للخيال ومشاكل الراوى المختلفة، ثم علاقة البنى التخيلية للنص المعاش. 

يربط الموظف بلسانه شهرًا وراء شهر، أسير حانقًا، صديقى عابس الوجه. 

ـ تركتْ دبلتى الفضية. 

أقرأ عليه السطر العشرين بعد المائة من المقطع العشرين: «سيدى الوالى، أكتب إليك من ظلمات سجن القلعة، مصفدًا بالأغلال، أسواط الجلادين مست العظام، الغلاء استبد بالناس فثمن البيضة ثلاثمائة رغيف و.. و.. و».

يصرخ الوالى السمين: 

ـ اقطعوا رأسه. 

تبكى جارية ريشة بين يدى الوالى، فاضت دموعها عن راحتيها، حفرت نهيرًا فى البلاط، تهب رياح عاتية على القصر، يختبئون فى السراديب، فلما رجعوا وجدوا الأصفاد والأسواط ولم يجدوه، مات الوالى خوفًا.

يصرخ فى: 

ـ ستظل مجنونًا بريشة بن قرطاس إلى أن تموت.

ينقطع التيار الكهربائى، يطلب السيد من الحارس شاحنًا ضوئيًا، يحضره، صوت مذياع فى جيب الحارس، فيسأله: 

ـ ما هذا؟

حديث فى برنامج ذكرياتى. 

ـ اعلُ بالصوت 

«الحريات الأربع أعلنها الآن الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت فى رسالة للكونجرس فى هذا العام ١٩٤١ م».

ـ أغلق الراديو، أريد سجائر من هذا النوع «يحدث نفسه» أين توقفت؟.. آه عند المقطع الثلاثين. 

«من زمن إلى زمن يقرأون كتاباته، على ضوء الشموع، المشاعل، مصابيح الغاز، مصابيح الفلوريسنت، السطر السابع والسبعين بعد المائتين من المقطع.

مشهد مسرحى

البطل يتحرك ذهابًا وعودة، ثم يتوقف أمام صورة ضخمة لزعيم الأمة. 

أنا لا أخافك «يلتفت إلى الجمهور» أحضروا لى ريشة بن قرطاس.. أحضروا لى ريشة بن قرطاس.

السطور الناقصة لم يعثر عليها أحد. 

موسيقى ثم غناء «أعطنى حريتى أطلق يدىَّ، إننى أعطيت ما استبقيت شيئًا» أسدل الستار. 

يشتد ساعد المأمور والوزير يستقل سيارته السوداء بعد أوامر صارمة، جنود الأمن المركزى فى كل مكان.

أنظر لصديقى، الدموع تتساقط من عينيه، لأول مرة أدقق فى ملامحه، به الكثير من ابن قرطاس...

يدخل الحارس مقدمًا علبة السجائر.

ـ سيدى. 

يلتقطها منه دون أن يرفع عينيه عن الأوراق، يواصل القراءة: 

ـ تزوجتْ أمس.. قال أبوها أنت بلا عمل منذ تخرجك. 

يردد مقطع الأغنية بصراخ هيسترى، رافعًا يديه إلى السماء، يرددها فى الشوارع والأمطار تتساقط، يرددها على المقاهى...

ما كادت عينا الموظف تقع علىَّ، حتى دفعنى أمامه، نهبط كثيرًا من الدرج، يقطع سيرنا فى بهو ملتوٍ، باب حديدى لحجرة سميكة الجدران، يتدلى مصباح من منتصف السقف، ضوؤه المخنوق بالسواد مسكوب على منضدة كاحلة، حولها أعضاء لجنة المناقشة، قال أحدهم: 

ـ اقرأ 

ـ كل ما أكتبه يا حبيبتى صراخ فى صراخ. 

ـ وهذا؟ 

ـ سأكتب بريشتى على القراطيس، الألواح، الجدران، على أجساد النساء، على الطرقات، سأكتب بريشتى حتى على وجه الماء. 

يدقون أسئلتهم فى دماغى، يتركوننى فاقد الوعى، يطن فى رأسى صوت صديقى مغنيا «أعطنى حريتى....».

أفيق.. أين أنا؟.. ما هذا السور الشاهق؟ 

ألتصق به، أصوات صاخبة متداخلة، أرتجف حزينا، يأتينى صوته هامسًا:

ـ لا تبتئس يا صديقى إننى على قيد الحياة.

يتسلل ضوء الشمس إلى حجرة المكتب، يغلق السيد رئيس اللجنة المختصة الملف، يرتدى معطفه، هالات الإعياء تحت عينيه، يشعل سيجارة، ينفث دخانه فى ضيق، ينظر من النافذة، تستكين نظراته على رجل قاعد على دكة خشبية، أسفل شجرة كثيفة الغصون والأوراق بالقرب من السور الشاهق، على ساقيه عدد من الكتب والأوراق. يدون سيادته فى نهاية الملف مرددًا: 

ـ ما زال المدعو ريشة بن قرطاس حرًا طليقًا.

التوقيع: 

رئيس اللجنة المختصة