رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسرائيل.. تكتيكات ناجحة واستراتيجية فاشلة

ما زالت إسرائيل تحاول التوغل برًا فى الأراضى اللبنانية، بينما دخلت الحرب فى غزة عامها الثانى.. وتعلو الدعوات لوقف إطلاق النار، فى أعقاب الغارات الجوية التى تشنها إسرائيل على بيروت، وإصابة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى جنوب لبنان «اليونيفيل»، بنيران الجيش الإسرائيلى، لأكثر من مرة.. كما تجرى عمليات هجومية فى جباليا، شمالى غزة، على الرغم من الدعوات الملحة على إنهاء النزاع هناك.. وردت إسرائيل على الهجمات الإيرانية الأخيرة، بالرغم من حث حلفائها لها على «ضبط النفس».. ولكن إسرائيل ماضية فى طريقها، رغم الضغوط، بسبب ثلاثة عوامل: السابع من أكتوبر، وبنيامين نتنياهو، والولايات المتحدة.
فى يناير 2020، هبط الجنرال الإيرانى، قاسم سليمانى، فى مطار بغداد قادمًا فى رحلة ليلية من دمشق.. وكان سليمانى رئيسًا لفيلق القدس الإيرانى، وهو وحدة سرية نخبوية تابعة للحرس الثورى الإيرانى، متخصصة فى العمليات الخارجية، تُشرف على تسليح وتدريب وتمويل وتوجيه الجماعات الموالية لإيران، فى العراق وسوريا ولبنان، وغيرها من البلدان.. وربما كان سليمانى، وقتها، ثانى أقوى رجل فى إيران، بعد المرشد الأعلى، آية الله على خامنئى.. وبمجرد خروج موكب سليمانى من المطار، تم اعتراضه بصاروخ أطلقته طائرة مُسيرة قتلته على الفور.. ورغم أن إسرائيل قدمت معلومات استخباراتية للمساعدة فى تحديد موقع «عدوها اللدود»، فإن الطائرة المُسيّرة كانت تابعة للولايات المتحدة.. وكان أمر الاغتيال قد صدر عن الرئيس الأمريكى آنذاك، دونالد ترمب، وليس رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو.
وفى إشارة منه إلى اغتيال سليمانى، قال الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، فى خطاب: «لن أنسى أن نتنياهو خذلنا».. وقال فى حوار لاحق، إنه كان يتوقع من إسرائيل «دورًا أكبر» فى الهجوم، إلا أنه قال لائمًا: «إسرائيل تريد أن تقاتل إيران حتى آخر جندى أمريكى»!!.. وفى حين أن رواية ترامب للأحداث محل نزاع، كان يُعتقد فى ذلك الوقت أن نتنياهو، الذى أشاد بعملية الاغتيال، كان قلقًا من أن التدخل الإسرائيلى المباشر قد يؤدى إلى هجوم واسع النطاق ضد إسرائيل، إما من إيران مباشرة، أو من وكلائها فى لبنان والعراق.. إذ أن إسرائيل كانت تخوض حربًا خفية مع إيران، لكن كل جانب كان حريصًا على إبقاء القتال ضمن حدود معينة، خوفًا من استفزاز الجانب الآخر، وتصعيد الوضع إلى «صراع أوسع نطاقًا».
وبعد أربعة أعوام، فى أبريل من العام الجارى، أمر نتنياهو بنفسه، مقاتلات إسرائيلية بقصف المجمع الدبلوماسى الإيرانى فى دمشق، فقتلت جنرالين إيرانيين اثنين، وآخرين معهما.. وفى يوليو من العام الحالى، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلى، الضوء الأخضر لاغتيال القائد العسكرى فى حزب الله، فؤاد شكر، فى غارة جوية على الضاحية الجنوبية لبيروت.. وبحسب ما ورد، كان رد فعل الرئيس الأمريكى الحالى، جو بايدن، هو انتقاد نتنياهو، وفقًا لكتاب جديد لبوب وودوارد، بعنوان The War «الحرب»، الذى يزعم أن الرئيس جو بايدن كان «مذهولًا» من استعداد رئيس الوزراء الإسرائيلى لتصعيد صراع، كان البيت الأبيض يحاول إنهاءه منذ أشهر.. ويقال إن الرئيس بايدن قال حينها: «كما تعلمون، فإن تصور إسرائيل فى جميع أنحاء العالم بشكل متزايد هو أنها دولة عابرة».
ما يفصل بين الحادثتين هو بالطبع السابع من أكتوبر 2023.. اليوم الأصعب فى تاريخ إسرائيل، والفشل السياسى والعسكرى والاستخباراتى ذو الأبعاد الكارثية.. لكن ما يجمع بينهما هو تحدى نتنياهو إرادة الولايات المتحدة.. ويساعدنا هذان العاملان فى فهم الطريقة التى تواصل بها إسرائيل إدارة الحرب الحالية.. فقد انتهت الحروب الأخيرة التى خاضتها إسرائيل بعد بضعة أسابيع، وذلك بعد أن تزايدت الضغوط الدولية، إلى الحد الذى دفع الولايات المتحدة إلى الإصرار على وقف إطلاق النار.. لأن ضراوة وحجم الهجوم الذى شنته حماس على إسرائيل، وتأثيره على المجتمع الإسرائيلى وشعوره بالأمان يعنى أن هذه كلها مؤشرات على أن هذه الحرب مختلفة عن جميع النزاعات الأخرى.
بالنسبة للإدارة الأمريكية، التى تضخ مليارات الدولارات من الأسلحة إلى إسرائيل، فإن مقتل المدنيين الفلسطينيين ومعاناتهم فى غزة، أمر «مزعج» للغاية، ومُضر سياسيًا بالإدارة الأمريكية.. وبالنسبة لمنتقدى واشنطن فى المنطقة، فإن العجز الواضح للقوة العظمى، عندما يتعلق الأمر بالتأثير على أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية، يبدو أمرًا مُحيّرًا فعلًا.. وحتى عندما كانت المقاتلات الأمريكية، فى أبريل الماضى، تتصدى للهجمات الإيرانية على إسرائيل، وهو ما يؤكد أن أمنها مرهون بالمساعدة الأمريكية، فإن إسرائيل واصلت تحديها لمحاولات تغيير مسار الحرب.. وفى الصيف، قررت إسرائيل تصعيد النزاع مع حزب الله، دون السعى للحصول على موافقة الولايات المتحدة.. وتعلَّم نتنياهو من تجربة امتدت عشرين سنة رئيسًا لوزراء إسرائيل، أنه يستطيع تحمل الضغوط الأمريكية، أو تجاهلها تمامًا.. فنتنياهو يعرف أن الولايات المتحدة لا يمكنها، فى سنة الانتخابات الرئاسية، أن تتخذ إجراءات تُرغمها على تغيير مسارها «وتعتقد أنها تُقاتل أعداء الولايات المتحدة أيضًا».
●●●
عندما يتعلق الأمر بالتصعيد الأخير، فمن الخطأ أن نفترض أن نتنياهو يعمل خارج التيار السياسى السائد فى إسرائيل.. بل إن الضغوط عليه تتلخص فى أن يكون أكثر صرامة، فى توجيه الضربات ضد حزب الله، بالإضافة إلى ضربات ضد إيران.. فعندما اقترحت الولايات المتحدة وفرنسا، فى سبتمبر الماضى، وقفًا لإطلاق النار فى لبنان، جاءت الانتقادات من المعارضة الإسرائيلية.. فقد رفضته أحزاب اليسار فى إسرائيل كما أحزاب اليمين.. فإسرائيل مُصرة على مواصلة حروبها الآن، ليس لأنها تشعر بقدرتها على الصمود أمام الضغوط الدولية، بل لأن مستوى تحملها للتهديدات التى تواجهها قد تغيَّر أيضًا منذ السابع من أكتوبر.
عبَّر حزب الله، بمرور السنوات، عن رغبته فى «الزحف إلى الجليل»، شمالى إسرائيل.. واليوم، وقد شاهد الإسرائيليون بأعينهم هجوم مقاتلى حماس، فإن هذا التهديد لا يمكن احتواؤه، بل لا بد من إزالته.. وتغيَّر مفهوم إسرائيل للمخاطر أيضًا.. فقد تلاشت مفاهيم «الخطوط العسكرية الحمراء» فى المنطقة.. ووقعت العديد من الأحداث خلال العام الماضى، التى كانت- لوقت قريب- ستؤدى إلى اندلاع حرب شاملة، وسقوط سيول من القنابل والصواريخ على طهران وبيروت وتل أبيب والقدس.
اغتالت إسرائيل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسى السابق لحماس، بينما كان ضيفًا عند الإيرانيين فى طهران، وقتلت يحيى السنوار، زعيم حماس الجديد، فى معركة بينه وبين جنود الاحتلال فى تل السلطان برفح، جنوب قطاع غزة.. وقتلت العديد من قادة حزب الله، بمن فيهم الأمين العام السابق للحزب، حسن نصرالله. واغتالت مسئولين إيرانيين من المستوى الأول فى مبانٍ دبلوماسية فى سوريا.. وأطلق حزب الله أكثر من تسعة آلاف صاروخ وقذيفة وطائرة مسيرة على المدن الإسرائيلية، من بينها صواريخ باليستية على تل أبيب.. وأطلق الحوثيون فى اليمن أيضًا صواريخ وطائرات مُسيرة على المدن الإسرائيلية، اعترضت الدفاعات الإسرائيلية بعضها فى سماء وسط إسرائيل، بينما أصاب بعضها الآخر هدفه.. وشنّت إيران هجمات على إسرائيل مرتين خلال الستة أشهر الماضية، استعملت فيها أكثر من خمسمائة طائرة مُسيّرة وصاروخ.. واجتاحت إسرائيل لبنان... إن أيًا من هذه السيناريوهات، كان ليتسبب فى اندلاع حرب إقليمية فى الماضى.. ولكن، عدم حدوث ذلك، من شأنه أن يُغيّر الطريقة التى يتخذ بها رئيس الوزراء الإسرائيلى الحَذِر عادة والمُتجنِب للمجازفة- قراره بشأن خطوته التالية.. التى لا بد أن تأخذ فى حسبانها ما لدى تل أبيب من قدرات عسكرية فعلية.
●●●
ينتهج الجيش الإسرائيلى سياسة «اقتصاد السلاح المُحكم»، بشأن استخدام الصواريخ والأسلحة الأخرى، على خلفية انخفاض مخزون الذخيرة، والحظر الذى تفرضه بعض دول العالم على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.. وبحسب مصادر فى صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن الجيش الإسرائيلى «يستخدم حاليًا اقتصادًا صارمًا للسلاح»، وفى بعض الحالات «رفع المستوى المسموح به للسماح باستخدام هذا السلاح إلى رتبة قائد لواء، بعد أن كان ضابطًا برتبة العقيد».. هذه السياسة «تهدف إلى إعطاء القيادة العليا الأولوية لاستخدام السلاح، بما يتوافق مع أهداف القوة الخاضعة لقيادته، وهى المسئولية المنوطة حاليًا بالقادة الأصغر سنًا».. وفى هذا السياق، قال الجيش إن «اقتصاد الذخائر»، فيما يتعلق باعتراض القبة الحديدية، بدأ منذ الأسبوع الثانى من الحرب، لكن الوضع الحالى لمخزون الذخيرة «أجبر على تشديد القيود».
فى غضون ذلك، أعلنت بريطانيا وألمانيا وكندا مؤخرًا، عن قيود على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، ومن المحتمل ألا تتمكن الشركات المملوكة لإسرائيل من تعويض ذلك.. وفى هذا السياق، أعربت المؤسسة الأمنية عن قلقها إزاء قرار رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، تأجيل زيارة وزير الدفاع، يوآف جالانت، إلى الولايات المتحدة، و«تشعر بالقلق بشكل عام بشأن توريد الذخيرة هذه الأيام».. وبحسب مسئولين كبار، فإن «الاجتماعات التى كانت مقررة بين جالانت ووزير الدفاع الأمريكى، لويد أوستن، ومسئولين كبار آخرين فى واشنطن، كان من المفترض أن تتناول احتياجات إسرائيل من الأسلحة وشحنات الأسلحة إليها، بالإضافة إلى الهجوم على إيران».. لكن نتنياهو تسبب فى تأجيل رحلة جالانت، لأنه طالب بالتحدث مع الرئيس الأمريكى جو بايدن بنفسه قبل الرحلة، إذ جرت بينهما، بعد ذلك، مكالمة هاتفية استمرت ثلاثين دقيقة، وهى أول مكالمة هاتفية بينهما منذ سبعة أسابيع، ناقشا خلالها «الهجوم الإسرائيلى على إيران، بينما سعى نتنياهو إلى فهم الموقف الأمريكى وتلقى الدعم».
●●●
المتابع الدقيق للأحداث فى المنطقة، يلاحظ أن لدى إيران استراتيجية للتعامل مع إسرائيل، بينما تحتاج إسرائيل إلى استراتيجية للتعامل مع إيران.. كيف؟.
منذ الهجوم الذى شنته حماس على إسرائيل فى السابع من أكتوبر، دعمت إيران هجمات على الدولة العبرية، من حلفائها فى محور المقاومة- حزب الله فى لبنان، والميليشيات الشيعية فى العراق، والحوثيين فى اليمن- وتُمثل الهجمات ضد إسرائيل خلال العام الماضى، المرحلة الأخيرة فى استراتيجية حرب الاستنزاف الإيرانية طويلة الأمد ضد إسرائيل.. وتُظهِر حرب حماس مع إسرائيل فى قطاع غزة والهجمات المستمرة تقريبًا ضد تل أبيب من وكلاء إيران الآخرين، فعالية استراتيجية طهران فى تسليح وتدريب المقاومة، التى توفر قدراتها العسكرية لإيران عمقًا استراتيجيًا، وسمحت لها، إلى حد كبير، بتجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل.  
وتُمثل المقاومة لإسرائيل «حلقة نار»، تهدف إلى استنزاف موارد الدولة العبرية وإضعاف معنوياتها، بإجبارها على القتال على عدة جبهات فى وقت واحد.. وقد أدت هجمات حزب الله الصاروخية والطائرات بدون طيار اليومية على شمال إسرائيل، بدءًا من الثامن من أكتوبر الماضى، إلى إجلاء حوالى سبعين ألف إسرائيلى من منازلهم فى الشمال، وأجبرت إسرائيل على الاحتفاظ بعدد كبير من القوات على حدودها الشمالية لمواجهة التهديد، قبل أن تبدأ اجتياحها البرى لجنوب لبنان.. كما أدت هجمات الحوثيين الصاروخية ضد إسرائيل إلى إغلاق ميناء إيلات الإسرائيلى على البحر الأحمر، فى حين أدت هجماتهم على الشحن الدولى عبر البحر الأحمر إلى انخفاض حركة السفن عبر قناة السويس، بنسبة تزيد على 50%، مما دفع شركات الشحن إلى القيام برحلة أطول وأكثر تكلفة حول رأس الرجاء الصالح.. كما استهدفت الميليشيات الشيعية العراقية إسرائيل بالصواريخ والطائرات بدون طيار، على أمل إبعاد الولايات المتحدة- التى ترى هذه الجماعات أن دعمها لإسرائيل هو مفتاح بقاء إسرائيل- عن المنطقة، ونفذت حوالى مائة وسبعين هجومًا ضد القوات الأمريكية فى العراق وسوريا.. كما سعت إيران إلى إدخال كميات كبيرة من الأسلحة إلى الضفة الغربية، لتمكين المسلحين الفلسطينيين من مواجهة هجمات القوات الإسرائيلية هناك.
عمدت إسرائيل إلى تكتيكيات كبيرة فى العمل على تدمير القدرات العسكرية لحماس فى غزة، وكذلك فى الرد على الهجمات المستمرة من حلفاء المقاومة الآخرين لإيران، فى سعى إسرائيلى إلى تقويض الوجود الإقليمى لإيران وإعادة إرساء الردع.. لقد دمرت إسرائيل جزءًا كبيرًا من القوة القتالية لحماس وأسلحتها وبنيتها التحتية، كما قتلت كبار القادة العسكريين فى غزة، مما حدَّ من قدرة حماس على تنفيذ عمليات عسكرية مُنظمة، وصعَّدت هجماتها على قوافل الأسلحة الإيرانية وحزب الله ومستودعات الأسلحة ومصانع الصواريخ فى سوريا، واستهدفت بشكل متزايد كبار ضباط الحرس الثورى العاملين فى سوريا.. وقتلت غارة جوية إسرائيلية الرجل الثانى فى حزب الله، فؤاد شكر فى بيروت، وقتلت قنبلة فى بيت ضيافته، الزعيم السياسى لحماس، إسماعيل هنية، فى طهران فى اليوم التالى، حيث سعت إسرائيل إلى إظهار مدى وصولها وقدرتها على الهيمنة على ساحة المعركة.
ومنذ منتصف سبتمبر، زادت إسرائيل بشكل كبير من عملياتها ضد أقوى حليف لإيران، حزب الله.. فعطلت أنظمة الاتصالات التابعة للمجموعة، من خلال التسبب فى انفجار آلاف أجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللا سلكية الخاصة بالأعضاء، وشنت غارات جوية أسفرت عن مقتل العشرات من كبار القادة ومتوسطى المستوى فى حزب الله، ودمرت بعض مواقع الإطلاق ومستودعات الأسلحة.. وتوجت إسرائيل هذه الحملة بغارة جوية أسفرت عن مقتل زعيم حزب الله حسن نصرالله، الذى يشكل موته ضربة قوية للجماعة المسلحة، وقتل جنودها زعيم حماس يحيى السنوار، فى مواجهة قتالية معه، فى تل السلطان برفح.
حاولت إسرائيل إظهار قدراتها، ليس فقط فى عملياتها الهجومية، ولكن أيضًا فى الدفاع عن نفسها ضد الهجمات.. عندما أدى مقتل إسرائيل لمسئولين كبار فى الحرس الثورى الإيرانى فى دمشق، فى الأول من أبريل، إلى هجوم مباشر غير مسبوق من إيران بعد أسبوعين، أسقطت الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بمساعدة الولايات المتحدة والعديد من الدول العربية والغربية، الكثير من الصواريخ والطائرات بدون طيار التى أطلقتها إيران على الدولة العبرية، والتى بلغ عددها حوالى ثلاثمائة صاروخ.. وعندما ردت إيران على إسرائيل، فى الأول من أكتوبر لمقتل هنية ونصرالله، بوابل من حوالى مائتى صاروخ، تصدت دفاعات إسرائيل، بدعم من تحالف تقوده الولايات المتحدة مرة أخرى، مما أدى إلى الحد من الأضرار فى الممتلكات وخسائر الأرواح داخل إسرائيل. 
●●●
ساعتها.. وعدت إسرائيل بالرد على الهجوم الإيرانى الأخير، وقالت إن أهدافها قد تشمل المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، وهو ما تجنبته تل أبيب.. فإنه يتعين على القيادة الإسرائيلية- كما يرى آلان بينو، الذى شغل منصب رئيس المجموعة فى مكتب شئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا فى وكالة الاستخبارات المركزية، ومسئول مجلس الاستخبارات الوطنى للشرق الأدنى، وتقاعد عام 2020- أن تجمع بين قدرتها العسكرية التكتيكية، وأهداف سياسية واضحة للانتصار فى هذا الصراع.. كما أشار الخبير الاستراتيجى العسكرى الصينى، صن تزو، إلى أن «التكتيكات بدون استراتيجية، ليست سوى ضجيج قبل الهزيمة».. والاستراتيجية السياسية الإسرائيلية لمواجهة إيران قد تبدأ بتأمين وقف إطلاق النار فى غزة، وإعادة الرهائن، وبمجرد انتهاء الحرب، مطلوب خطة انتقالية للحكم الفلسطينى تحت سلطة فلسطينية مُصلِحة وإعادة بناء غزة.. لأن الاحتلال الإسرائيلى المُطوّل، أو الفوضى التى تلى الانسحاب الإسرائيلى من غزة، من شأنه أن يعزز نفوذ إيران فى المنطقة.. وسوف تتمكن إيران من تأجيج غضب الشارع العربى تجاه إسرائيل، بسبب ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين، الأمر الذى من شأنه أن يساعد فى إبقاء علاقات الدول العربية مع إسرائيل تحت الضغط.. ولن يتسنى إلا ضمان المشاركة العربية والتمويل لغزة بعد الحرب، من خلال الالتزام الإسرائيلى بالحكم المدنى الفلسطينى والعملية الطويلة الأجل، المؤدية إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما من شأنه أن يقلل من مكانة إيران وقدرتها على التدخل فى المنطقة.    
إن تأمين الدعم العربى للمضى قدمًا فى غزة، من شأنه أيضًا أن يفتح الطريق أمام استئناف المفاوضات مع المملكة العربية السعودية، بشأن التطبيع مع إسرائيل.. وهو ما يُشكل مفتاحًا لإدراج إسرائيل فى نظام سياسى واقتصادى وأمنى إقليمى، قادر على موازنة إيران، والحد من جاذبية طهران ونفوذها الإقليمى.. إن مشاركة العديد من الدول العربية فى المساعدة على تحييد وابل الصواريخ والطائرات بدون طيار، التى أطلقتها إيران ضد إسرائيل فى أبريل الماضى، تُقدم لنا نموذجًا لكيفية عمل الدول العربية وإسرائيل لمواجهة التهديدات العسكرية من إيران.
لقد وجّه التصعيد الإسرائيلى الأخير فى هجماته على حزب الله، وخصوصًا اغتيال حسن نصرالله، ضربة قاسية لقدرات حزب الله العسكرية، الأمر الذى أتاح لإسرائيل الفرصة لتحقيق هدفها المُعلن، المتمثل فى إجبار الحزب على وقف هجماته على شمال إسرائيل وسحب قواته من الحدود، والسماح للإسرائيليين بالعودة إلى ديارهم فى الشمال.. وواصلت إسرائيل الضغط على حزب الله، من خلال شن غارات جوية متواصلة ضد أهداف الحزب، وتوغل برى فى جنوب لبنان لتطهيره من مقاتليه، وتدمير البنية الأساسية للحزب بالقرب من الحدود، وتآكل قدرات الحزب على مهاجمة شمال إسرائيل.. ولكن على الرغم من نجاح إسرائيل فى القضاء على العديد من كبار قادة حزب الله واستهداف مخزونات الأسلحة لديه، فإن الحزب يظل يشكل تحديًا خطيرًا، حيث لا تزال تحت تصرفه مخزونات ضخمة من الصواريخ والقذائف، فضلًا عن آلاف القوات المسلحة المُدربة على صد أى حملة برية إسرائيلية.. ومن المؤكد أن الهجوم الإسرائيلى، من شأنه أن يزيد من احتمالات تكبد حزب الله المزيد من الخسائر، ولكنه يزيد من خطر تعرض إسرائيل لنكسة أيضًا.. وهو ما بدا واضحًا فى إعلان إسرائيل نية انسحابها من عمليتها البرية فى جنوب لبنان، خلال ثلاثة أسابيع، زعمًا من تل أبيب أنها حققت أهدافها من حزب الله، ولكن بـ«شروط المنتصر»، الذى لا نرى له وجودًا على الأرض!!.
إن المكاسب العسكرية التى حققتها إسرائيل، بدلًا من تصعيد هجماتها، توفر الفرصة لدعم الجهود الدبلوماسية الرامية إلى التوصل إلى حل سياسى.. وقد ظل المبعوث الأمريكى، آموس هوكستاين، وغيره من الدبلوماسيين، يحاولون منذ أشهر التفاوض على وقف القتال، بحيث ينسحب حزب الله بقواته إلى الشمال من نهر الليطانى، على بعد خمسة عشر ميلًا تقريبًا من الحدود مع إسرائيل.. ولكى تصمد أى تسوية، فإنها لا بد وأن تتضمن خطة لتعزيز قوة الأمم المتحدة «اليونيفيل»، لمراقبة المنطقة الواقعة إلى الجنوب من النهر وضمان الامتثال لقرار الأمم المتحدة رقم 1701.. والواقع أن تركيز إسرائيل الحصرى على «الطريق إلى النصر على حزب الله بالقتل»، فى مواجهة الدعوات من جانب الولايات المتحدة ودول أوروبا والشرق الأوسط لوقف إطلاق النار، من شأنه أن يزيد من احتمالات الاحتكاك مع الولايات المتحدة، ويزيد من عزلة إسرائيل، ويدفع الجيش الإسرائيلى إلى «هجوم ممتد بأهداف غير محددة المعالم مُعرضة للتوسع».. إن الهجوم الإسرائيلى المدمر على حزب الله يعزز من نفوذ الدبلوماسيين، من خلال توضيح العواقب المترتبة على عدم الرضوخ للاتفاق على تسوية مع حزب الله وراعيه الإيرانى.. وحتى إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسى، فإن إسرائيل تستطيع أن تستخدم فترة انتقالية بدون قتال، للاستعداد للصراع الذى قد يأتى، وإصلاح العلاقات الإقليمية والدولية التى يمكنها الاعتماد عليها فى أى صراع مستقبلى.
وعلى نطاق أوسع، فإن التعامل مع التهديد من إيران، بما فى ذلك برنامجها النووى المتقدم، والتهديد المستمر من محور المقاومة، ليس شيئًا تستطيع إسرائيل القيام به بمفردها.. لكن إنهاء الحرب فى غزة بخطة لإعادة الإعمار، وقيادة فلسطينية معتدلة، وفى نهاية المطاف، إقامة دولة فلسطينية، يمكن أن يساعد إسرائيل فى استنباط الدعم الإقليمى والدولى التى تحتاجه للتعامل مع هذه التحديات.. ومن شأن مثل هذه الخطة أن تفتح الطريق أمام اتفاقات للدول العربية مع إسرائيل، والتى يمكن أن توازن وتعزل إيران وحلفاءها.. ويمكنها أيضًا أن تبدأ فى تخفيف انتقادات الدولة العبرية من الولايات المتحدة، وإعادة تأهيل مكانتها فى المجتمع الدولى، التى عانت من انحدار حاد، بسبب العدد الكبير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، والدمار واسع النطاق الناجم عن حملتها العسكرية ضد حماس.. لقد عانت علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة، بسبب تصور إدارة جو بايدن أن إسرائيل لم تتخذ الحرص الكافى لتجنب قتل المدنيين، وأن رئيس الوزراء نتنياهو قد يطيل أمد الحرب لتجنب تفتيت ائتلافه وفقدانه السلطة.. وقد أشار كل من المرشحة الرئاسية الديمقراطية، كامالا هاريس، والمرشح الرئاسى الجمهورى، دونالد ترامب، إلى أنهما يريدان من إسرائيل أن تُنهى الحرب.
●●●
■■ وبعد..
فإن إيران تنتهج استراتيجية طويلة الأمد لإبقاء إسرائيل تحت الضغط، واستفزاز العدوان الإسرائيلى الذى من شأنه أن يُولِد ردود فعل إقليمية ودولية عنيفة ضد تل أبيب، وإضعاف مساندة الشعب الإسرائيلى لنتنياهو فى القتال.. لقد أحرزت إسرائيل بعض التقدم فى إضعاف «حلقة النار» الإيرانية، واستعادة بعض الردع بسبب عملياتها العسكرية.. ولكن الدولة العبرية تحتاج إلى خطة طويلة الأمد، قادرة على تأمين التعاون الإقليمى، وإعادة تأهيل صورتها الدولية، والحفاظ على دعم الولايات المتحدة، وإعطاء الشعب الإسرائيلى الأمل فى مستقبل خالٍ من الحروب التى لا تنتهى.. وهنا، وأمام عدم تحقق ذلك، تفوز إيران.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.