الأضرحة والمقابر القديمة.. مسئولية مَن؟
على طريق صلاح سالم، وفى الجهة المقابلة لمشيخة الأزهر مباشرة، هناك قبة مملوكية رائعة الجمال تعلو فى شموخ وإباء. علامة مميزة جدًا لكل من يعبر هذا الطريق. هى جزء أصيل ومتناغم مع هذه الجبانة العريقة التى يعود تاريخها للعصر المملوكى. وهناك أبحاث وكتب قديمة تؤكد أنها امتداد للمقابر التى دفن فيها الفاتحون المسلمون موتاهم. هناك آلاف من القادة والجنود جاءوا بصحبة عمرو بن العاص ومن تلاه من الولاة. بعضهم كان من الصحابة والتابعين، دفنوا بالقرب من هذه المقابر. ولجبل المقطم، حيث توجد هذه المقابر على سفحه، مكانة شبه مقدسة عند المسلمين، ولذلك اختاروه لدفن موتاهم.
ودعنى أصدمك بأن هذه القبة الجميلة، ليست مملوكية أصلية.. ولا تصنف بحكم القانون كأثر، لأنه لم يمض على تشييدها مائة عام. وإذا أقدمت جهة ما على هدمها لأى هدف ما، على شاكلة توسعة طريق صلاح سالم من هذه المنطقة، أو إقامة محور مرورى وكوبرى علوى فوقها، فإن وزارة الآثار لن تتدخل إلا كما تدخلت مع هدم قبة مستولدة محمد على باشا بمدفن حليم باشا قبل أسبوعين. ستصدر بيانًا محدود الفقرات تؤكد فيه أنها ليست أثرًا.. وقد تضيف إلى ذلك أنها آيلة للسقوط، ومن الأفضل هدمها حفاظًا على الأرواح!
ومن الممكن أن نجد تصريحًا فى برنامج تليفزيونى أو صحيفة يومية من رئيس جهاز التنسيق الحضارى المهندس، محمد أبوسعدة، يؤكد فيه أنه يرفض ما يحدث على مدى العامين الأخيرين للمقابر الأثرية من تجريف وهدم، لكنه لا يملك السلطة لوقف هذه الممارسات. وقد يصرح وزير الثقافة، الدكتور أحمد فؤاد هنو، بعد انتهاء عمليات هدم القبة، بأنه قد حصل وعود قوية من أعلى مستوى بأن عمليات الهدم سيتم وقفها بشكل مؤقت.. مع وعد آخر بإعادة دراسة ملف المحاور المرورية بالمكان.. أو نقل الأضرحة المهددة لمكان آخر!
الغالبية العظمى من الأخبار والتقارير فى الإعلام العربى والدولى عن مصر، هى حول تجريف المقابر التاريخية طوال الشهور الماضية حتى الآن.. وكأنّ هناك من يريد أن تستمر هذه الأخبار السلبية عن مصر. لا يوجد منطق علمى حول استمرار هذه الممارسات بنفس الأسلوب.
هناك دول من حولنا بلا تاريخ يُذكر، وتنشط بشتى الطرق فى الحفائر هنا وهناك، بحثًا عن أثر أو كنز، ولو كان بسيطًا لتحتفى به، ونحن نهدم تراثنا وآثارنا بشكل منظم. قرأت اقتراحات وأفكارًا مفيدة لإنقاذ المقابر والأضرحة التاريخية. نقابة المهندسين أصدرت بيانًا مهمًا ناشدت من خلاله الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، بالتدخل الفورى لوقف تداعيات فقد التراث المصرى.. وقدمت خلال البيان أفكارًا مهمة حول الحفاظ على إنقاذ هذه الكنوز وعدم تعطيل المشروع.
قبل عقدين تقريبًا، ظهرت خطط طموحة لتطوير القاهرة، وكان هناك جزء مهم فيها حول هذه المنطقة ومستقبلها والحلول العلمية والحضارية للتعامل مع المقابر التاريخية. وقد شارك فى صياغة هذه الدراسات والخطط، أساتذة واستشاريون كبار. كانت التوصيات حازمة فيما يتعلق بضرورة نقل المقابر العادية، لكن تتعامل بأسلوب دقيق وتفصيلى مع مقابر المشاهير، وكذلك المقابر التاريخية الأثرية، أو التراثية ذات الطراز المعمارى المتميز.
أعود للقبة المملوكية الشامخة التى بدأت بها، فهى تعلو مدفن أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى الأسبق، والمغامر والمستكشف الشهير، وقد أقيم هذا المدفن عام ١٩٤٦، أى بعد عامين من وفاة حسنين باشا الغامضة.
وتردد حينها أن الإنجليز هم وراء قتله، كما طالت الشائعات الملك فاروق، نظرًا لأن حسنين باشا كان قد تزوج من الملكة نازلى، أم فاروق، سرًا.
ومصدر الأهمية الإضافى لهذا المكان هو أن الذى صممه هو الدكتور حسن فتحى أشهر المعماريين المصريين فى العصر الحديث. وكانت هناك علاقة مصاهرة بين العائلتين، حيث تزوج فتحى من شقيقة حسنين باشا. ورغم أن حسن فتحى اشتهر بإبداعاته لعمارة الفقراء فى أكثر من مكان أبرزها القرنة بالأقصر، فإنه عندما صمم هذا المدفن احترم طبيعة المكان وتاريخه وقصص المدفونين فيه.. فبنى لقبر صهره مقبرة على الطراز المملوكى. وعندما دخلتها، وكنت أعد حلقات صحفية عن صاحب المقبرة، وتعمقت فى تفاصيل المكان، لم أشك لحظة أننى فى مدفن أثرى قديم.
هناك فى هذا المكان مئات المقابر والمدافن والقباب التى هى أعرق وأجمل من المدفن الذى وصفته هنا، وهى فى غالبها مهددة بشكل أو بآخر بالهدم والتجريف، وإذا لم يكن اليوم ففى الأيام المقبلة.
مطلوب تعامل مختلف وعاجل، لإنقاذ هذه الكنوز والإرث العظيم الذى تركه لنا أجدادنا وآباؤنا فى هذه المنطقة.