نظرة متأنية للخلف
الكتابة عن الماضى ليست من قبيل اللهو أو الاعتزاز بتاريخ كنا نراه جميلًا، ولكنها دائمًا محاولة لعرض أشياء رأيناها مفيدة، ونحاول أن نستفيد منها فى الوقت الحاضر.
عندما نكتب عن حوادث وقعت فى عهد عبدالناصر أو السادات، فإننا أبدًا لا نقصد التقليل من شأن أى منهما، أو تفضيل أحدهما عن الآخر، أو مهاجمة أحد، إنما نراه نقد موضوع يقوم طرح ما حدث وإجراء نقاش حوله، ونتقبل فيه كل الآراء. ولا يفهم مما أكتب أننى ضد عبدالناصر، أو ضد السادات.
أدين لعبدالناصر لاستفادتى من مجانية التعليم التى حققها. لولاها ما تعلمت، ولا التحقت بأرقى الكليات التى كانت حكرًا على الطبقة المميزة فى ذلك الوقت.
وفى نفس الوقت كانت سياسة الصدامات، وتعبئة الجماهير بالحماس الزائف، والنفخ فى الكرامة الوطنية إلى درجة لا تحتمل، وتم إجبارنا بسبب تلك السياسات على دخول حروب، لم نكن مستعدين لها، مما عرضنا لهزائم فادحة ما زلنا ندفع ثمنها.
كما لا يمكن لأحد أن ينكر أنه فى عصر السادات شعرنا بالتشرذم والتشتت، بعد مبادرة للسلام التى صفق لها العالم كله، إلا العرب، الذين يبحثون عن الأمجاد الوهمية فى الحرب والقتال، حتى ولو لم يتحقق النصر، رغم أن الرجل حرر الأرض، ورد لنا اعتبارنا، ولكن كان هناك شىء يدفعنا إلى عدم التسليم بكل ما كان يفعله، وأنه زرع فى بلادنا شياطين الإرهاب، التى أثمرت رصاصًا وقنابل فى صدور أبنائنا الضباط والجنود وضحايا بالآلاف من المدنيين والمفكرين والكتاب، وتدمير منشآت ومواقع، تمت إعادة بنائها من قوت المصريين.
وفى عصر مبارك عانينا من كل شىء، عانينا من الطبقات الطفيلية التى امتصت خيرات مصر، وعانينا من كبت الحريات، وعانى شبابنا من عدم اللحاق بالوظيفة التى تأهل لها، كما تأثرت البنية التحتية لكل البلاد، كانت هناك أقلام تنبه لخطورة ما يحدث فى الظلام، من رجال الأمن، والممارسات الأمنية الظالمة التى كانت مختبئة تحت ستار إعلامى كثيف، فكان الكبت، والضرب بشدة، وانتشرت الرشاوى والمحسوبية، واستغلال النفوذ فى كل مجال. فتضاءلت فرص الاستثمار، وتغلغل التيار الدينى، ثم تغول، فكان ما كان. وعندما كتبنا أجبرنا على التزام بيتنا، نكتب منه، حتى الآن.
واستبشرنا خيرًا بثورة يناير 2011، مع كل المصريين، أنا بصفة شخصية، لم أشارك فيها، لأننى لم أكن مقيمًا بالقاهرة، ولأننى لدى أسرة كان يجب ألا أفارقها، ولأجل ذلك لم أحج إلى ميدان التحرير، ولكننا كتبنا مؤيدين ومباركين، وانبهرنا باللحظات الحاسمة، وشاهدنا الليالى السوداء، التى أحرقت فيها كل أقسام الشرطة، وإحراق ونهب وثائق ومحتويات المجمع العلمى العريق فى القصر العينى وعشنا أيام السواد مع الانحسار الرهيب للأمن، وجلسنا فى الشوارع ليلًا لنحمى بيوتنا، وشاهدنا نهب المتحف المصرى، ورأينا من يحرق علم مصر فى ميدان التحرير، والمظاهرات الباهظة التى تنادى بسقوط الجيش ونشر الفوضى، واستمعنا إلى من يريد هدم مؤسسات الدولة، ليقيم عليها مؤسسات أخرى، لا ندرى هويتها، وكأننا كنا نعيش فى الكهوف ولم تكن لنا مؤسسات قبل يناير، ولم نكن دولة ولا لدينا جيش، ولا قضاء، ولا شرطة لأكثر من مائتى عام مضت. وجاء رئيس رفض أن يؤدى اليمين الدستورية أمام قضاة المحكمة الدستورية، وأدى اليمين فى ميدان التحرير. ولكن عاد وأقسم أمام المحكمة الدستورية، ليستكمل الشكل القانونى فقط، غير مقتنع بالدستور. وجاء الرئيس السيسى، وقلنا إن مصر يجب أن تستمر، وأن تمضى، وأن تنجو من المصير الرهيب الذى كان مخططًا لها، ولم نعارض، لاعتقادنا أن مصر فى مرحلة نقاهة، لا تستوجب الضغط الشديد أو إرهاقها بمعارضة صاخبة، لأنها فى مرحلة بناء مؤسساتها الدستورية والديمقراطية.
وكنا نتطلع إلى: تحقيق نوع العدالة الاجتماعية، التخفيف من وطأة التضخم على الطبقات المحدودة الدخل، مقاومة الفساد، وضع ضوابط صارمة لتدخل رأس المال فى الحكم، والحد من عبادة الفرد، وعدم إلقاء كل الأحمال والتطلعات على كاهل الرئيس.
ورغم أن بعض ما ننادى به لم يتحقق، فى ظل أزمات اقتصادية لا دخل لنا بها، وحروب أشعلها إخوان لنا، بجهل وحماس لا مبرر له، فقد أشعلوا حربًا لا طاقة لهم بها، وأدخلوا شعوبهم فى هاوية الخراب والدمار، إلا أننا نرى أننا فى وضع متميز، متمنين أن تسير مصر للأمام، ومؤمنين بأن الزمن والإرادة، كفيلان بتحقيق كل ما نريده لإصلاح بلدنا.