رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قازان.. BRICS.. والقمة المصرية الروسية

عند التقاء نهرى الفولجا وكازانكا، تقع مدينة قازان، أحد أهم مراكز الاتحاد الروسى الصناعية والمالية، وتلك هى المدينة التى تستضيف، منذ أمس الأول، الثلاثاء، القمة السادسة عشرة لتجمع دول «بريكس»، التى تنتهى أعمالها، اليوم الخميس، وتشهد مشاركة مصر، للمرة الأولى، كعضو فى التجمع، بعد انضمامها، رسميًا، مع الإمارات والسعودية وإيران وإثيوبيا، فى بداية السنة الجارية.

الحدث الأضخم، الذى تستضيفه روسيا منذ بداية الأزمة الأوكرانية، سنة ٢٠٢٢، يحمل شعار أو عنوان «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين»، كما أشرنا، أمس، ويشارك فيه حوالى ٢٥ رئيس دولة وحكومة، من بينهم الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى غادر القاهرة صباح الثلاثاء، متوجهًا إلى قازان، ومساء اليوم نفسه التقى الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وعقد الرئيسان جلسة مباحثات موسعة.

تترأس روسيا الاتحادية، منذ بداية السنة الجارية، تجمع «بريكس»، الذى يضم، أيضًا، البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، وتأتى قمة قازان بعد أن عقدت الرئاسة الروسية للتجمع أكثر من ٣٠٠ اجتماع وفعالية، وحدث، على مستوى الخبراء والوزراء، وحددت موسكو ثلاث أولويات لرئاستها، هى: السياسة والأمن، والتعاون فى الاقتصاد والتمويل، والتبادلات الإنسانية والثقافية. وبدا واضحًا أنها أولت أهمية خاصة للدول الإسلامية، وربما لهذا السبب وقع الاختيار على مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان، إحدى دول الاتحاد الروسى، التى يمثل المسلمون ٧٠٪ تقريبًا من تعداد سكانها، وتستضيف سنويًا منتدى «روسيا العالم الإسلامى»، الذى يهدف إلى تعزيز التعاون بين روسيا والدول الإسلامية، وتنسيق الأجندة الاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية والمعلوماتية عبر الهياكل المختلفة لمنظمة التعاون الإسلامى.

نتائج الرئاسة الروسية للتجمع، لخّصها «إعلان قازان»، الذى تضمن تقييمات عامة للأوضاع الدولية الراهنة، وحدّد المبادئ التوجيهية للتعامل والتعاون بين الدول الأعضاء فى «بريكس»، على المدى الطويل، وسبل مواجهة التحديات المستقبلية وتحقيق أهدافها المشتركة. أما الجلسة الأولى للقمة، التى حملت العنوان الرئيسى لسنة الرئاسة الروسية، «تعزيز النظام المتعدد من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين»، فتناولت رؤى الدول الأعضاء ومواقفها، وفيها ألقى الرئيس السيسى كلمة مصر، التى أكدت اعتزازها بمشاركتها الأولى كعضو فى «بريكس»، وحرصها على تعزيز انخراطها بشكل فاعل فى جميع آليات عمل التجمع، فى إطار تطوير العلاقات الاستراتيجية التى تربطها بالدول الأعضاء. كما ثمّن الرئيس، مجددًا، جهود روسيا، خلال السنة الجارية، فى مختلف المجالات، إضافة إلى الجهود الروسية فى إدارة المناقشات الخاصة بتوسيع الشراكة مع الدول الصديقة والمؤثرة، ما يعكس الرغبة المشتركة فى تطوير منظومة العمل الجماعى، وإعلاء صوت الدول النامية فى مختلف المحافل الدولية والإقليمية. 

مكررًا تأكيد التزام مصر، بمبادئ ومحاور عمل تجمع «بريكس»، وحرصها على تعزيز التعاون بين دوله، وزيادة النمو الاقتصادى العالمى، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، تحدث الرئيس السيسى، أيضًا، فى الجلسة الثانية الموسعة للقمة، التى وصفها بأنها تمثل فرصة مواتية لتبادل الآراء والتشاور، فى إطار من المصارحة لتعزيز الفهم المشترك للقضايا الدولية والإقليمية الراهنة، وأشار إلى أن توسيع عضوية تجمع «بريكس» مطلع السنة الجارية، يعكس نية دول التجمع لتعزيز التعاون متعدد الأطراف، وإعلاء صوت ومصالح الدول النامية، فى مختلف المحافل الدولية والإقليمية. كما أثنى الرئيس على تقارير الإحاطة المقدمة من رئيسة «بنك التنمية الجديد»، مذكرًا بأن مصر استضافت، فى يونيو الماضى، الملتقى الدولى الأول للبنك، فى ظل إيمانها بالدور المهم، الذى يضطلع به، فى توفير التمويل الميسر لدعم تنفيذ المشروعات التنموية بالدول النامية، خاصة فى قطاعات النقل والطاقة النظيفة والبنية التحتية الرقمية والتنمية الحضرية، و... و... وأثنى الرئيس، أيضًا، على تقارير الإحاطة المقدمة من ممثلى مجلس أعمال «بريكس»، وتحالف سيدات الأعمال، وآلية التعاون البنكية بالتجمع، مؤكدًا دعم مصر الكامل لعملهم.

القمة بطبيعتها، ككل قمم تجمع «بريكس»، تركز على القضايا الاقتصادية، مع عدم إغفال البعد السياسى. وعليه، سلط الرئيس الضوء، فى هذه الجلسة، وفى الجلسة الثانية الموسعة، على الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية المتصاعدة، لافتًا إلى أنها تدفع إلى العمل بقوة نحو ضمان فاعلية المنظومة الدولية، التى أظهرت بوضوح عجزها عن التفاعل مع الكارثة الإنسانية التى يشهدها قطاع غزة، والعدوان الإسرائيلى على لبنان، على الرغم من التحذيرات المستمرة من العواقب الوخيمة لهذا الصراع وتوسعه، مشددًا على الأهمية الكبيرة لتجمع «بريكس»، والدور الحيوى الذى يمكنه القيام به لتطوير المنظومة الدولية، مستعرضًا أولويات مصر فى هذا الإطار، والمتمثلة فى أهمية تعزيز التعاون المشترك لاستحداث آليات مبتكرة وفعالة لتمويل التنمية، على غرار مبادلة الديون من أجل المناخ، مع تعظيم الاستفادة من الآليات التمويلية القائمة، فى ظل ارتفاع فجوة تمويل التنمية إلى حوالى أربعة تريليونات دولار فى الدول النامية.

أكد الرئيس، كذلك، ضرورة اتخاذ خطوات حقيقية وفاعلة، لإصلاح الهيكل المالى العالمى، بما فى ذلك مؤسسات التمويل الدولية، وبنوك التنمية متعددة الأطراف، لتعزيز استجابتها للاحتياجات الفعلية للدول النامية، وأهمية تعزيز التعاون بين دول تجمع بريكس»، فى مواجهة التداعيات السلبية لتغير المناخ، إضافة إلى وجوب استثمار المميزات النسبية، التى تتمتع بها دول التجمع لتنفيذ مشروعات مشتركة فى قطاعات الاقتصاد الرئيسية، خاصة قطاعات الطاقة والبنية التحتية، والصناعات التحويلية، والعلوم والتكنولوجيا والابتكار، ودفع أطر التعاون المشترك فيما يتعلق بالتسوية المالية بالعملات المحلية، إضافة إلى دعوته لتكثيف وتعميق التواصل والتعاون الثقافى بين شعوب دول التجمع. ولعلك تتذكر أننا كنا قد أشرنا، أمس، إلى أن الرؤى والمقترحات المصرية بشأن سبل تعزيز التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء فى تجمع «بريكس»، قُوبلت بتأييد واسع، منذ الاجتماع الأول من سلسلة الاجتماعات والفعاليات، التى نظمتها الرئاسة الروسية للتجمع، وأوضحنا أن تلك المقترحات تضمنت تكثيف التعاون فى مجالات الطاقة والأمن الغذائى ونقل التكنولوجيا واللوجستيات، وإنشاء صلات مؤسسية بين الهيئات المعنية بالاستثمار فى الدول الأعضاء، ودعم آليات التنسيق بشأن إصلاح النظام الاقتصادى العالمى، ودفع الجهود لزيادة تمثيل الدول النامية فى الأطر المالية والنقدية الدولية، وتعزيز الروابط بين التجمع والقارة الإفريقية، إضافة إلى العمل على تطوير نظم المدفوعات بين دول التجمع بالعملات الوطنية، أو بصيغة أوضح، تقليل الاعتماد على الدولار، والتوسع فى استخدام العملات الوطنية فى تسوية المعاملات التجارية.

مع ترحيبه المعتاد بزيارة الرئيس السيسى لبلاده، أعرب الرئيس بوتين عن سعادته بالمشاركة الأولى لمصر كعضو فى تجمع «بريكس»، مؤكدًا أن انضمام مصر يمثل إضافة لمسارات عمل التجمع، ويسهم فى تعزيز دوره كمنصة لتعزيز التعاون متعدد الأطراف بين الدول النامية. كما أكد الرئيس الروسى أهمية تعزيز العلاقات الثنائية والتعاون المستمر بين البلدين واستمرار تنفيذ عدد من المشروعات المشتركة الكبرى، وأشار إلى العمل الجارى لإعداد اتفاقية تجارة حرة بين مصر والاتحاد الاقتصادى الأوراسى، موضحًا أن هذه الاتفاقية ستفتح آفاقًا أوسع للتبادل التجارى والاستثمارى بين مصر ودول الاتحاد الأوراسى، وستعزز من دور مصر كجسر اقتصادى بين إفريقيا وأوروبا وآسيا، وأعرب عن تطلعه للمزيد من المناقشات حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، سواء على المستوى الثنائى أو فى إطار تجمع «بريكس»، مشيرًا إلى أن مصر وروسيا تتشاركان توجهات مشتركة، فى التعامل مع العديد من التحديات الدولية الملحة، وتعملان جنبًا إلى جنب لحل القضايا المعقدة. و... و... ومن جانبه عبّر الرئيس السيسى عن تقديره المشاركة فى قمة قازان، مشيرًا إلى أنها تأتى فى إطار الحرص المصرى على الانخراط فى فعاليات وأطر التجمع، مثنيًا على الجهد الذى بذلته روسيا خلال فترة رئاستها التجمع.

بدأت العلاقات الدبلوماسية بين مصر والاتحاد السوفيتى فى ٢٦ أغسطس ١٩٤٣، وفى السنة نفسها جرى توقيع أول اتفاقية اقتصادية حول مقايضة القطن المصرى بحبوب وأخشاب من الاتحاد السوفيتى‏. ثم شهدت العلاقة تطورات كبيرة ومتلاحقة بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، كما كانت مصر فى طليعة الدول التى أقامت علاقات دبلوماسية مع روسيا الاتحادية بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، سنة ١٩٩١، و... و... وخلال السنوات العشر الماضية حدثت طفرة فى العلاقات، بدأت بزيارات متبادلة لرئيسى الدولتين، إذ زار الرئيس السيسى روسيا مرتين فى ٢٠١٤، الأولى فى فبراير عندما كان لا يزال وزيرًا للدفاع، والثانية فى أغسطس بعد انتخابه رئيسًا، وفى فبراير ٢٠١٥، زار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مصر. وإلى جانب الزيارات المتبادلة، والاتصالات التليفونية المتكررة، التقى الرئيسان السيسى وبوتين، مرارًا، على هامش مؤتمرات دولية. وبدءًا من الدورة التاسعة لـ«اللجنة المصرية- الروسية المشتركة للتعاون التجارى والاقتصادى والعلمى والفنى»، التى أقيمت بالعاصمة الروسية موسكو، فى مارس ٢٠١٤، شهدت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين تطورات كبيرة، رافقتها طفرات فى العلاقات السياسية والعسكرية، وتوّجتها اتفاقية الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجى، التى تم توقيعها فى أكتوبر ٢٠١٨، والتى يوفّر إطارها العام آليات مختلفة، لتعميق العلاقات الثنائية، واستغلال الفرص الاقتصادية التكاملية، وتعزيز وتعميق العلاقات الثنائية. وفى سياقات ومناسبات مختلفة، أعرب الرئيس السيسى عن اعتزازه بعلاقات الصداقة التاريخية الوطيدة مع روسيا الاتحادية، وبالتطور الملموس الذى شهدته فى العديد من القطاعات الحيوية، وبتنفيذ مشروعات كبيرة وطموحة، تخدم البلدين، وتستجيب لتطلعات شعبيهما فى تحقيق التقدم الاقتصادى.

تأسيسًا على ذلك، أشار الرئيس السيسى، خلال لقائه الرئيس بوتين، إلى الأهمية التى توليها مصر لتعزيز التعاون مع روسيا، ليس فقط على المستوى متعدد الأطراف، لكن أيضًا على مستوى العلاقات الثنائية، التى تشهد تطورًا كبيرًا فى مختلف المجالات، استنادًا إلى اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة بين البلدين، سنة ٢٠١٨، كما ثمَّن الرئيس التعاون بين البلدين فى العديد من المشروعات المشتركة، خاصةً مشروع محطة الضبعة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية، والمنطقة الصناعية الروسية بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التى أعرب عن أمله فى أن تكون نواة لمنطقة صناعية كبرى تخص تجمع «بريكس».

الطبيعة الودية، تقليديًا، لعلاقات البلدين، التى عززتها الشراكة الاستراتيجية، خلقت حوارًا سياسيًا مستمرًا بينهما، بشأن الملفات الملحة ذات الاهتمام المشترك. وعليه، تباحث الرئيسان حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية، واتفقا على الأهمية القصوى لخفض التصعيد بمنطقة الشرق الأوسط فى ظل ما يحمله الصراع بالمنطقة من تداعيات سلبية، على المستويين الإقليمى والدولى، داعيين إلى ضرورة التوصل إلى وقف فورى لإطلاق النار فى غزة ولبنان، وتفادى الممارسات والإجراءات التى من شأنها أن تدفع بالإقليم نحو مزيد من التأزم. وفى هذا السياق شدَّد الرئيس على ضرورة تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى أهالى قطاع غزة، إضافة إلى دعم لبنان وتأكيد احترام سيادته وأمنه واستقراره. ولدى تناول الأزمة الروسية- الأوكرانية، أكد الرئيس، مجددًا موقف مصر الداعى للحلول الدبلوماسية والتسويات السياسية للأزمات من خلال الحوار، على النحو الذى يحفظ السلم والأمن الدوليين ويصون مقدرات الشعوب.

.. وتبقى الإشارة إلى أن الرئيس السيسى التقى، على هامش مشاركته فى أعمال قمة قازان، وسيلتقى بعد كتابة هذه السطور، عددًا من الزعماء المشاركين فى القمة، من بينهم الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان، الذى تبادل معه وجهات النظر حول التطورات بالمنطقة، واستعرض الجهود والاتصالات المصرية المكثفة لمحاولة دفع مسار التهدئة، والتوصل لوقف إطلاق النار فى غزة ولبنان، مؤكدًا أهمية نزع فتيل التوتر الإقليمى وتفادى التصعيد غير المحسوب، الذى قد يدفع المنطقة برمتها إلى مواجهات خطيرة ذات تداعيات سلبية على أمن الإقليم واستقراره. كما شدّد الرئيس، كذلك، على ضرورة حشد الجهود الدولية لحث جميع الأطراف على التعامل بإيجابية مع المساعى الرامية للتهدئة، بما يسمح بمعالجة الكارثة الإنسانية التى يعيشها المدنيون فى فلسطين ولبنان.