لماذا تنشغل أدمغتنا بالاتصال المجتمعى؟
لماذا نتعامل مع أدمغتنا كمكتبة عامة فيما يخص العلوم الاجتماعية؟.. لماذا نشعر بالعذاب الشديد عندما نفقد أحد أفراد الأسرة؟.. هل يجب أن نتعامل مع الآلام الاجتماعية والجسدية على نحو مماثل؟
يحاول ماثيو ليبرمان؛ عالم الأعصاب ومدير مختبر علم الأعصاب الإدراكى فى جامعة كاليفورنيا من خلال كتابه «لماذا تنشغل أدمغتنا بالاتصال؟» للإجابة على سؤال «من نحن؟» كمخلوقات اجتماعية، ويحاول الكشف عن فهم أكثر دقة للطبيعة الاجتماعية لدينا وكيف يمكن أن نُحسّن حياتنا ومجتمعنا؟.
ليبرمان الذى أمضى العقدين الماضيين مستخدمًا أدوات مثل الرنين المغناطيسى الوظيفى لدراسة كيفية استجابة الدماغ البشرى للسياق الاجتماعى، وقد وجد مرارًا وتكرارًا أن أدمغتنا ليست مجرد آليات مبسطة تستجيب فقط للألم والمتعة، ولكن لها القدرة على التواصل والتمييز المجتمعى.
ليبرمان لديه سؤال فى الصميم، لماذا نشعر بالعذاب الشديد عندما نفقد أحد أفراد الأسرة؟.. يوضح «ليبرمان» أن ذلك بعيد عن كونه عيبًا تصميميًا فى الهندسة العصبية فى أدمغتنا، فقدرتنا على الحزن الكبير هى ميزة حيوية وقانون تطورى لدينا، يقول إن البحث الذى قمت بإجرائه مع زوجتى على مدى العقد الماضى أعطانا تلك الإجابة، أن الألم هو ليس مجرد حادث بل هو مهم للغاية لبقائنا.
لقد تطورت أدمغتنا لتواجه تجربة التهديدات الاجتماعية لدينا بنفس الطريقة التى واجهت الألم الجسدى، ومن خلال تفعيل نفس الدوائر العصبية التى تسبب لنا االشعور بهذا الألم، إن الرابط العصبى بين الألم الفيزيائى والاجتماعى يضمن لنا البقاء متصلين اجتماعيًا، ذلك الاتصال الذى نحتاج إليه مدى الحياة، مثل الغذاء والدفء. هنا يطرح «ليبرمان» السؤال:
«نظرًا لحقيقة أن أدمغتنا تتعامل مع الآلام الاجتماعية والمادية على نحو مماثل، هل يتعيّن علينا علاج الألم الاجتماعى بشكل مختلف عمّا نفعل الآن؟».
«يقول ليبرمان»: أما عن البحوث التى أجريتها مع آخرين قد كانت باستخدام الرنين المغناطيسى، وهى توضح كيف أن خبرة الآلام الاجتماعية على خلاف تصورنا لأنفسنا، فنحن نعتقد بصورة حدسية أن الآلام الاجتماعية والمادية- مثل كسر الرِجل- هى أنواع مختلفة جذريًا من الخبرات، ولكن طريق أدمغتنا فى تعاملها معهما توحى بأنها أكثر تماثلًا مما نتصور، أن البناء الاجتماعى يعتمد على الفردية، ويلاحظ أيضًا أن «أحاسيسنا الاجتماعية طيعة تجاه الأساس العصبى للمعتقدات الشخصية التى تتداخل بشكل كبير مع واحدة من مناطق الدماغ المسئولة فى المقام الأول عن السماح لمعتقدات الآخرين للتأثير على ذات منطقتنا الشخصية».
يبرز «ليبرمان» قضية أساس نسيج المجتمع قائلًا «إن مجتمعنا تم نسجه عبر سلسلة من الرهانات التى تطوّر وضعها مرارًا وتكرارًا على مر تاريخ الثدييات، هذه الرهانات جاءت على شكل تعديلات تم تحديدها، فهى تعزز البقاء والتكاثر. هذه التكيفات تُكثف أواصر علاقة القرابة والصداقة لتزداد هذه المشاعر مع من حولنا، كما تزداد قدرتنا على التنبؤ بما يدور فى أذهان الآخرين حتى نتمكن من التنسيق والتعاون معهم بشكل أفضل». إن ألم الخسارة الاجتماعية أو الضحك مع جمهور معين على حادث فى موقف ما، يمكن أن يؤثر فينا بنفس الدرجة، وهذا هو الترابط ما بين أدمغتنا عن طريق التواصل والتفاعل مع الآخرين، وهذه هى سمة من سمات التصميم، وليس أحد عيوبه، حيث إن هذه التكيفات الاجتماعية هى المحور الذى جعلنا النوع الأكثر نجاحًا على الأرض.
إن لهذا آثارًا مترتبة عبر كل شيء، من الحميمية فى العلاقات الشخصية إلى الإدارة التنظيمية والعمل الجماعى المعقد.
تمامًا كما أن هناك شبكات اجتماعية متعددة على شبكة الإنترنت مثل الفيسبوك وتويتر، ولكل منها نقاط قوتها الخاصة، فإن هناك أيضًا شبكات اجتماعية متعددة فى أدمغتنا، ومجموعات من مناطق الدماغ التى تعمل معًا لتعزيز موقعنا على خارطة التواصل المجتمعى. كل هذه الشبكات لديها نقاط القوة الخاصة بها، وأنها ظهرت فى نقاط مختلفة من تاريخنا التطورى، حيث الانتقال من الفقاريات إلى الثدييات إلى الرئيسيات إلينا نحن الهومو سابينس «الإنسان العاقل»، إن هذا النظام يلخّص نفسه خلال مرحلة الطفولة لدينا بوضوح.
هوامش:
***
الهندسة العصبية: هى شكل من أشكال الاختراق الحيوى للدماغ والجهاز العصبى المركزى أو بمعنى أدق هو أسلوب تعامل أو تدخل فى بناء الخلايا العصبية سواء بإصلاحها أو تحسينها.
علم الأعصاب الإدراكى: يطلق عليها أيضًا اسم البيولوجيا العصبية حيث يندرج ضمن طب الظواهر المخية.
فقد اكتشف مثلًا أن عدد الخلايا المخية لا يتغير تقريبًا مع الزمن، ولكن الذى يتغير هو كيفية تواصل وتلاحم هذه الخلايا. فكلما درب المرء نفسه وأجهد دماغه بالتفكير زاد عدد الوصلات والتحامها، وهو ما يؤدى إلى مقدرة أكبر على الاستيعاب والذكاء والعكس صحيح.