رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

70 عامًا مع محمد منير

حتى الساعة لا أفهم المقصود بمعنى الخيانة التى تدعيها جماعة من المثقفين بشأن منير.. يقولون ببساطة: «منير خان مشروعه!»، أسميهم أنا بالمثقفين المتطرفين، وحين أفكر فى تجنيهم البائس الذى يعبّر فى حقيقته عن ضيق أفق وتردى ذوق، أجد أنهم يعنون أن المغنى الكبير تغير عمّا كان، وهذا جرى فعلًا، ولكن متى كان التغير خيانة للأصل؟ ههنا يقولون واثقين: لم تعد الأغانى التى يتبناها منذ سنوات كأغانيه الأولى، لم تعد لنا، صارت للسوق، وصرنا نبحث عن مغنٍ جديد نحلم معه وننتظر نهارًا...
لدى هؤلاء مشكلات عويصة مع شيئين على الأقل:
- ما الغناء؟ وما وظيفته؟  
- ما مفهوم التطور بشكل عام؟.
هؤلاء المتشددون قد يكونون هم من خانوا مغنيهم، لو كان لا بد من استعمال لفظ الخيانة بدلالاته السلبية غير المطمئنة، فكل مرادهم أن يسجنوه فى خانة تخص أرواحهم القلقة المضطربة، لا يسمحون له بالتمرد ولا التجريب، يخنقون حريته إلى الأبد، فى الوقت الذى يظهرون فيه بمظهر من حررهم الوعى من كل القيود.
ومن الخيبات أنهم لا يراقبون أنفسهم، ولكنهم يراقبون الآخرين جيدًا، وكما يرفعون أناسًا إلى عنان السماء يدفنون غيرهم فى سابع أرض، يرفعون من يتصورونهم معهم ويخفضون من يتصورونهم ضدهم، وهكذا هم قتلة فى الحالين، يبالغون فى المدح فيملؤون فنانيهم المفضلين غرورًا لا ثقة، ويبالغون فى القدح فيحبطون مفضليهم من الفنانين ويكسرونهم بمنتهى الأريحية!
منير بدأ كبيرًا «علمونى عنيكى 1977» وإلى آخر أغنية أنتجها ظل كذلك؛ فاستحق أن تهتف له الجماهير الغفيرة التى كأنها ولدت معه فى الجنوب المصرى العزيز فى العاشر من أكتوبر الانتصار عام 1954، تغنى وحدها بعيدًا عن وصاية من يدّعون العلم ببواطن الأمور، «الكبير كبير يا محمد يا منير»، واستحق لقب الملك، دون منازع، طوال أعوام الكفاح والنجاح.
من جهة تغير منير، فقد تغير قطعًا، ولكننى لم أرصد انهيارًا رهيبًا صاحب هذا التغير، كزعم المتشائمين، قدر ما رصدت أنه ضم جمهورًا جديدًا من الشباب إلى جماهيره الأصلية، هذا الجمهور الجديد عاد إليه من أوله، وهضمه وأحبه، ولم يأخذ عليه ما يعيب، ولكنه وجد بكرة الخيط متناغمة الألوان من أولها إلى آخرها، كأن هؤلاء الشباب أشد استيعابًا لحالة المغنى الفريد من المستمعين الأوائل، الأوائل الذين جحدت طائفة منهم تسلسل المشاوير بنظام المرونة الفطنة لا الصرامة الغبية، وهكذا الفن المدروس الذى قصده الخلود، والذين لا يحددون، بالمناسبة، ملامح التغير الفظيع الذى طرأ على مغنيهم؛ فصرفهم عنه وجعلهم يسيئون إليه كأنهم فى حرب، وهو العدو!
لأن منير كبر فى السن، 70 عامًا حاليًا، وصار يغنى أحيانًا وهو جالس على كرسيه الذى يشعر المحب النقى بأنه يملأ المسرح رسوخًا ولا يكسر إيقاع ثباته، فقد سارع ناقصو الحكمة إلى مطالبته بالتوقف عن الغناء، ولو توقف مثله لمات المسرح نفسه، ولماتت قلوب عشاق الحيوية الصادقة بانسدال الستار. 
منير الإنسان، وقد اقتربت منه تمامًا فى فترة من الفترات، لا يقل جمالًا عن المغنى، ومن أبرز مزاياه ذاكرة حادة، وتشارك حميم مع الصحبة فى الأفراح والأتراح، ووفاء نادر مستمر للوطن والجذور والأهل والميادين والموسيقى والقيم الحلوة الغالية فى العالم بأسره.