رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة عصمت النمر ومنجزه

الجهد الذى بذله الدكتور «عصمت النمر»، الباحث والشاعر والمؤرخ الموسيقى، للحفاظ على تراث الموسيقى الشرقية فى مصر، والإعلاء من شأن مدرسة التلاوة وتراث فن الإنشاد الدينى جهد محمود، وفيه نبل نادر وإحساس بالمسئولية. هذا الجهد كان يحتاج إلى مؤسسة كاملة لكى يخرج بهذا الشكل، ولكن الرجل بذل بمفرده أكثر من أربعين عامًا من عمره وهو يعيش فى الزقازيق لكى يؤكد أن مصر الصداحة الفنانة قادرة بفنها وفنانيها على مواجهة الظلاميين. هو لم يفتش فقط عن الكنوز المخفية والتسجيلات النادرة فقط، ولكنه استفاد من التقنيات الحديثة للحفاظ عليها، وأيضًا للتأريخ لها وربطها بزمنها. ومنذ تعرفى عليه منذ ما يقرب من أربعة عقود، عن طريق الشيخ إمام عيسى، وأنا مفتون بدأبه وإخلاصه، لأنه يشعرك بأنه يخوض حربًا يريد أن يكسبها لصالح أهله، وفى معظم الأماكن التى عملت لها كان قلمه واقتراحاته سندًا لى. مؤخرًا لم يعد جسده يحتمل، بسبب مشكلات صحية متراكمة، ولأن الرجل السبعينى يعانى مثل الجميع، قرر عرض الأرشيف الذى أفنى عمره فى جمعه للبيع، واشترط أن يكون المشترى مصريًا، رغم بعض العروض التى جاءته من خارج مصر، مكتبته تحتوى على تسجيلات من التراث القديم بدايات القرن العشرين ومئات السيديهات والهاردات المرتبة، وحفلات نادرة وتلاوات لأسماء غير معروفة لنا، إلى جانب راديو يبث الأعمال التراثية منذ ١٤ عامًا على الإنترنت اسمه «مصرفون»، هو يعيد التذكير بأسماء كبيرة كادت تسقط من الذاكرة، فى كل فنون الغناء، الشعبى منه، من الإسكندرية إلى النوبة ومن السلوم إلى سيناء. الحفاظ على هذا التراث والاهتمام به يحتاج لتدخل الدولة وتشكيل لجنة لتصنيفه وإمكانية عرضه، واستغلاله لكى تتعرف الأجيال الجديدة على عظمة تراثهم. وأثناء أزمته الصحية صدر كتابه الجديد «طرب اليهود العرب» عن دار «المحرر»، ليسد فجوة فى التأريخ لرموز المغنين والموسيقيين اليهود العرب الذين كانوا جزءًا من النسيج العربى قبل احتلال فلسطين، الكتاب صغير الحجم كبير القيمة اعتمد صاحبه على معظم المراجع التى تناولت هذا الموضوع فى مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والعراق وسوريا وغيرها من الدول، بالطبع لم يخترع اليهود العرب موسيقى يمكن تسميتها موسيقى يهودية، ولكنهم كانوا جزءًا من نسيج هذه البلدان. تطرق الكتاب لموسيقيى ليبيا والمغرب والعراق ورسم صورة للزمن والأشخاص، وأيضًا دور نجوم التلحين فى تطوير الموسيقى داخل كل مجتمع، أفسح الكتاب وهو يتناول دورهم فى مصر مساحة لأحد أهم الموسيقيين عندنا وهو «داود حسنى» صاحب المنزلة الرفيعة عند الموسيقيين والسميعة، وبالطبع تحدث عن «زكى مراد» وأبنائه، وبالطبع تحدث عن «يعقوب صنوع» أحد رواد ومؤسسى المسرح المصرى الحديث. «داود حسنى» «١٨٧٠- ١٩٣٧» هو لا شك من أهم الملحنين، ومن القلائل الذين حافظوا على مكانتهم، فهو ينتمى إلى مدرسة القرن التاسع عشر، وأشاد به «محمد عثمان» المحدث الأعظم والذى كان يترك له فرقته الموسيقية لإحياء الحفلات والأفراح، و«عبده الحامولى» أيضًا فرح بالموهبة الطالعة، وبعد الثورة التى أحدثها «سيد درويش» فى الموسيقى لم يتخلّ «حسنى» عن قناعاته القديمة ولم يرفض الجديد، بل استفاد منه، ويذكر له أنه كان صاحب فضل كبير على صوت «أم كلثوم» بتدريبه لها وتلحينه لها عشرة أدوار كانت أهم أسباب تفوقها فيما بعد، مثل «شرف حبيب القلب والبعد علمنى السهر وقلبى عرف معنى الأشواق» وغيرها من الألحان الشجية الصعبة. داود حسنى كما جاء فى الكتاب كان فى بداياته مجددًا بسبب مزجه بين مختلف المقامات، وهو الذى استوحى الموسيقى الفارسية لكى تضاف إلى النغم التركى والأندلسى، ترك مدرسة الفيرير بعد الابتدائية، وخطفته الموسيقى التى كان يرفض والده محب الموسيقى امتهانها، وعمل فى مكتبة «الشيخ سكر» التى كانت تقوم بتجليد الكتب، وكان هذا الشيخ يقيم حفلات الذكر فى المناسبات الدينية، وسمح لحسنى بالغناء فى المكتبة بعد أن استحسن صوته، إلى أن سمعه الإمام «محمد عبده» الذى كان يجلد كتبه فى المكتبة، فأعجب به وتوقع له مستقبلًا كبيرًا، هذا الإعجاب دفعه إلى السفر إلى المنصورة لتعلم الموسيقى والعزف على الآلات على يد الشيخ «محمد شعبان»، عاش هناك عامين واقترب فيهما من غناء الفلاحين والصيادين والمراكبية والدراويش، بدأ بعد عودته غناء أعمال أحد أساطين هذا الزمان وهو «محمد عبدالرحيم المسلوب»، وكان أول لحن له الذى بسببه احتضنه محمد عثمان هو دور «الحق عندى لك ياللى غرامك زايد»، وداود حسنى أيضًا هو أول من لحن وأدخل موسيقى الأوبرا من خلال «شمشون ودليلة»، هو أستاذ «ليلى مراد»، ولحن لنجوم زمنه كبارًا وصغارًا، فغنى له «عبده الحامولى» شخصيًا و«المنيلاوى وعبدالحى حلمى وزكى مراد والصفتى والسبع والشنتورى والسبع ونجاة على وأم كلثوم بالطبع، وآمال الأطرش الذى اختار لها اسم أسمهان». الكتاب فيه جهد كبير، وتعامل مع اليهود العرب حسب منجزهم بأمانة وصدق، لأنهم لم يكونوا أغرابًا، ولولا زراعة الكيان الغاصب فى المنطقة لكان أحفاد هؤلاء يواصلون ما بدأه أجدادهم.