الموسيقى العربية ومواجهة القبح بالجمال
ليس غريبًا على مصر أن تنظم مهرجان الموسيقى العربية فى هذا التوقيت الذى تشتعل فيه البلدان المجاورة بـ البارود والنار، وأن تأتى دورة المهرجان رقم 32 بينما تلتهب الأخبار على الفضائيات بالحروب والدم. أقول ليس غريبًا لأننى مقتنع بضرورة انتصار الجمال على القبح، وأن ارتقاء الوجدان الإنسانى هو الطريق إلى السلام والتسامح والمصالحة.
وفى ظنى أن قرار عقد المهرجان فى هذا التوقيت الدقيق هو رسالة للعالم كى يعود إلى إنسانيته، وأن مصر التى تواجه الدنيا على مختلف الجبهات وتواجه ملفات صعبة فى الداخل والخارج ما زالت قادرة على الغناء والإبداع، وأنها عندما ترسل قواتها المسلحة للحفاظ على الأمن فى الصومال ومدخل البحر الأحمر كى يكتمل لها أمنها، تواصل ومن خلال دار الأوبرا دورها الحضارى وتنظم مهرجان الموسيقى العربية، ونرى مقاعد الجمهور كاملة العدد ونفاد حجز تذاكر الحفلات مبكرًا.
إذن هى رسالة مزدوجة يتفق فيها الجمهور مع متخذ قرار عقد المهرجان بأن البندقية ليست بديلًا عن آلة الكمان، وأن المهرجان الذى يعتبر واحدًا من أقدم مهرجانات الموسيقى فى المنطقة العربية والعالم قد تأسس كى يعيش ويزدهر ويكون محطة رئيسية للموهوبين فى العالم العربى، كى ينطلقوا فى كل مكان يبشرون بسلامة الإنسان وصيانة روحه القلقة والمعذبة بفعل السياسة وتجارة الحروب.
ولعلنا نتذكر عندما نشطت الجماعات التكفيرية فى مختلف البلدان العربية وتصدت لها المؤسسات العسكرية، فى تلك الأيام- ما زالت تلك الأيام قائمة- نتذكر النخبة الثقافية الوطنية وهى ترفع صوتها عاليًا مطالبة بأهمية دور الفن بمختلف تجلياته فى مواجهة التخلف، وبضرورة عودة حصة الموسيقى إلى المدارس، وأن غياب الفنون يخلق فراغًا لدى النشء وهنا تكون فرصة التخلف ليدخل ويملأ هذا الفراغ. المقاومة بشكل عام ليست بنادق ودبابات، المقاومة يمكن أن تكون بصناعة الجمال وهى صناعة غاية فى الصعوبة، لأنها تحتاج إلى الموهبة، وتحتاج إلى مناخ عام يساعد تلك الموهبة على النمو والتطور كى تؤثر بشكل إيجابى على تقدم المجتمعات الإنسانية.
ولعل اختيار اسم فنان الشعب سيد درويش كى تنطلق فعاليات مهرجان الموسيقى العربية تحت رايته كان الاختيار الأمثل، وذلك لما يمثله اسم سيد درويش من اكتمال الموهبة والرسالة، فهو إلى جانب حرفيته العالية وموهبته الموسيقية الفذة لم ينفصل عن أحلام وطموحات الشعب الذى يسعى نحو السعادة والأمان.
لذلك من حقنا أن نفتخر بأن المشهد الثقافى المصرى قادر على الحضور فى عز الأزمات الإقليمية المحيطة بنا، وأن انطلاق الدورة الـ32 من مهرجان الموسيقى العربية 2024 دليل على إصرار الروح المصرية على الحياة لتنشر عزيمتها فى الجسد العربى بموسيقاه العربية، وخلق الفرصة للمتعة فى صفوف الجمهور المصرى والعربى، من خلال الباقة المتنوعة من الحفلات الموسيقية التى تحتفى بالتراث الغنائى العربى الأصيل.
ويرى المهتمون بالموسيقى أن المهرجان يمثل منصة مهمة ورئيسية للاحتفاء بالتراث الغنائى العربى، وتقديم فرصة للجمهور للاستمتاع بأصوات النجوم الكبار واكتشاف المواهب الشابة، كما يسهم المهرجان فى تعزيز التواصل الثقافى بين الشعوب العربية، ونشر الوعى بأهمية الحفاظ على التراث الموسيقى.
الآن.. سوف تحلق الأرواح العظيمة فى سماء العرب كبديل عن الطائرات المقاتلة، وسوف يلمح المتابعون بوضوح روح بليغ حمدى وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهم من المواهب الموسيقية العربية الفذة التى عبرت فى حياة هذه الشعوب واستطاعت أن تسقى وجدانها بالمتعة والجمال.