رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة فى تاريخ فلسطين «6» التوراة ودولة إسرائيل الكبرى

فى مطلع الثمانينيات، وتحديدًا فى فبراير عام ١٩٨٢ نشرت مجلة الاتجاهات «كيوفنيم» العبرية، المعنية بالدراسات الاستراتيجية، مقالة علمية عرفت باسم «خطة ينون» أو «Yinon Plan»، التى كتبها عوديد ينون، المستشار السياسى الأسبق لرئيس وزراء إسرائيل حينها أرييل شارون. 

تتحدث هذه الورقة البحثية عن مستقبل إسرائيل السياسى، وضرورة وضع خطة لضمان استقرار إسرائيل من خلال سياسة جديدة تبتعد عن المواجهة المباشرة وتستند إلى منطق الانقسامات العرقية. حيث أشار «ينون» إلى وجود عيوب فى البنية الوطنية والاجتماعية للدول العربية، التى تم تقسيمها من قبل الغرب إلى ١٩ دولة عربية غير متجانسة طائفيًا وعرقيًا، ما جعلها أشبه بفسيفساء عرقية وطائفية يمكن تقويضها فى أى لحظة بإشعال فتيل الصراع فيما بينها. وذيل «ينون» مقالته بقوله: «إن أى صراع عربى- عربى يصب فى النهاية فى مصلحة إسرائيل، ويعجل بدولة إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل». 

وبعيدًا عن الادعاءات التى أثبتتها الأيام، التى تقول إن هذه الخطة قد تم تبنيها من قبل معهد الاستراتيجيات الصهيونية فى الإدارة الأمريكية، وإنها دخلت حيز التنفيذ فى إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، سنجد أن مقولة «دولة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل» تتردد كثيرًا على ألسنة الساسة الإسرائيليين منذ بدايات تأسيس دولة إسرائيل حتى الآن، آخرها كان منذ أيام قليلة، حيث نشرت وسائل التواصل الاجتماعى تصريحات مصورة لوزير المالية الإسرائيلى الحالى «بتسلئيل سموتريتش» يقول فيها: «نريد دولة يهودية تضم الأردن والسعودية ومصر والعراق وسوريا ولبنان». وهو الأمر الذى يتماشى مع سياسة وأفكار رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو المولع بعرض الخرائط فى خطاباته فى الأمم المتحدة، والتى يرسم بها مستقبل المنطقة وفق أهوائه ومعتقداته. ورغم عبثية المعتقد «بدولة إسرائيل الكبرى»، الذى يقوم على وعد إلهى غير ملزم لباقى الشعوب التى لا تؤمن باليهودية، نجد أن هناك خطوات متسارعة ترتكز على خطط طويلة الأمد، تلتقى فيها المصالح الإسرائيلية مع المصالح الأمريكية، وأحزاب اليمين المسيحى المتطرف فى أوروبا، نحو تنفيذ ذلك المخطط وتحقيق أحلام فئة من البشر تعانى من الهوس الدينى والطمع الاستعمارى. والسؤال الآن، من أين أتى الحلم بإسرائيل الكبرى؟ وهل حقًا وعد الرب بنى إسرائيل بحكم الأرض من الفرات إلى النيل؟ 

ونعود إلى عزرا، الكاتب الذى قام بكتابة نصوص التوراة بعد العودة من السبى، فقد ذكرنا فى المقالات السابقة كيف عمد «عزرا» إلى ترسيخ فكرة «الاختيار الإلهى» لشعب إسرائيل، وحث على التطهير العرقى لأرض أورشليم حتى يحافظ على نقاء الشعب اليهودى، من خلال سياسات عدة، منها طرد النساء الأجنبيات المتزوجات من يهود، ومنها سن القوانين التى تبيح القتل والإبادة للرجال والنساء والأطفال والرضع من شعوب الأرض الرجسة، ويقصد بها كل الشعوب من غير اليهود.

ولكى تنشأ عاطفة أبدية بين شعب إسرائيل وهذه الأرض، تمت إضافة عنصر جديد، هو أسطورة الأرض الموعودة التى انبثقت منها فكرة إسرائيل الكبرى. هذه العاطفة التى تحدث عنها الحاخام «ميمون فيشمان» أول وزير للأديان فى إسرائيل عام ١٩٤٨، فقال: «إن الرباط بين إسرائيل وأرضها ليس كالرباط الذى يشد سائر الأمم إلى أرضها، فالرباط بين الشعب اليهودى والأرض به سر من القداسة، وهو رباط من عند السماء». 

ومصطلح «الأرض الموعودة» هو مصطلح أكثر دقة من مصطلح «أرض الميعاد» الذى يكثر استخدامه فى الكتابات العربية. فكلمة «موعودة» مشتقة من الوعد والمقصود به «الوعد الإبراهيمى» الذى منحه الرب لإبراهيم ونسله بحكم هذه الأرض، أما كلمة «الميعاد» فمشتقة من العودة، وربما استخدم هذا المصطلح فى أوقات الشتات اليهودى. 

ونعود إلى النصوص التى كتبها عزرا الكاتب بشأن وعد الرب لبنى إسرائيل بالأرض، والحقيقة أن هذه النصوص تتباين فيما بينها تباينًا شديدًا فى تحديد حدود هذه الأرض وفى تحديد من الذى سيرثها، ما يفتح الباب للتساؤل، عن احتمالية وقوع عزرا فى خطأ أدى إلى التناقض بين النصوص، أو احتمالية إضافة نصوص إلى التوراة فى فترة تالية لعزرا؛ للتأكيد على بعض الأفكار التوسعية. والنص الأول الذى يشير إلى هذا الوعد ورد فى سفر الخروج الإصحاح الثالث عشر، الذى ذكر: «وقال الرب لإبرام ارفع عينيك، وانظر من الموضع الذى أنت فيه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ لأن جميع الأرض التى أنت ترى، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد». 

فى هذا النص كان الوعد لإبراهيم ونسله وكانت حدود الأرض هى الاتجاهات الأربعة بمد البصر. ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يمتد بصر إبراهيم لأكثر من حدود مدينة صغيرة فى أرض كنعان التى كان يقف عليها، لكن هذه الحدود قد اتسعت فجأة فى سفر التكوين حين تمت صياغة النص بصورة أخرى على يد عزرا أو غيره فى الإصحاح الخامس عشر «فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا، قائلًا: لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» تكوين ١٥، وهو النص الذى بنى عليه شارحو التوراة فكرة دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل. ومن المفارقات أن هذا الإصحاح والآيات التى به تفتح جدلًا حول من هو الوريث للوعد الإبراهيمى؟ فكلمة «لنسلك» تشير فى أغلب الظن إلى أن كل أبناء إبراهيم هم ورثة هذه الأرض، وهم بالترتيب حسب السن: إسماعيل، ثم إسحاق، ثم أبناء إبراهيم من قطورة الكنعانية، الذين تجاهلتهم التوراة تمامًا واعتبرتهم من شعوب الأرض النجسة، ولو كان المقصود أن الوريث ابن واحد فمما لا شك فيه أن هذا الابن سيكون هو ابنه البكر إسماعيل، لأن الآيات التالية فى ذلك الإصحاح توضح أن إبراهيم عند صدور الوعد الإلهى لم يكن قد أنجب بعد، ولهذا سأل الرب متعجبًا بعد أن منحه ذلك الوعد «أيها السيد الرب ماذا تعطينى وأنا ماضٍ عقيم؟»، ثم اشتكى له أن أمواله نفسها سيرثها خادم منزله أليعازر الدمشقى، لأنه ليس لديه وريث من صلبه، فقال: «إنك لم تعطنى نسلًا، وهو ذا ابن بيتى وارث لى»، فرد عليه الرب موضحًا له أنه سينجب ولدًا وأن هذا الولد هو الوريث، فقال: «لا يرثك هذا، بل الذى سيخرج من أحشائك هو يرثك»، فكانت هذه إشارة إلى أنه سينجب، وأن الابن المبشر به هو الوارث الشرعى، ومن المعروف أن إسماعيل هو الابن الأكبر ويكبر إسحاق بحوالى ١٤ سنة، وعلى هذا فالمنطق يحتم أن يكون هو المقصود بهذا النص، لكن لسبب أو لآخر أضيف نص لاحق يحصر ميراث الأرض فى نسل إسحاق، فذكر «وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًا...» إلى أن قال «وَلكِنْ عَهْدِى أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِى تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِى هذَا الْوَقْتِ فِى السَّنَةِ الآتِيَةِ»، وبهذا تم استبعاد بنى إسماعيل من الوعد، رغم أن الرب باركه وأكثر من ذريته!

ولم يتوقف التلاعب بنصوص التوراة عند هذا الحد، فبعد استبعاد أبناء إبراهيم من قطورة، واستبعاد إسماعيل ونسله، تم استبعاد عيسو، الابن البكر لإسحاق، من الوعد أيضًا، وتم حصر الوعد فى نسل ابنه الأصغر يعقوب، إذ قال الرب ليعقوب: «وَالأَرْضُ الَّتِى أَعْطَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ، لَكَ أُعْطِيهَا، وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أُعْطِى الأَرْضَ» تكوين ٣٥.

ورغم كل هذا التلفيق الذى يناقض بعضه بعضًا، فى سفر التكوين فيما يتعلق بمن سيرث الأرض بين الفرات والنيل، نجد أن تناقضًا أفضح وأكبر فى سفر الخروج فيما يتعلق بحدود هذه الأرض الموعودة، فمن بين ست مرات ذكرت فيها الأرض الموعودة، نجد أن الحدود قد تباينت أربع مرات، فتارة تُذكر على أنها مكان داخل أرض كنعان بمقدار مد البصر لإبراهيم، وتارة أرض كنعان بأكملها، وتارة ثالثة مساحة من الأرض محددة الأبعاد بين الفرات والنيل، وأخيرًا كامل المساحة بين الفرات والنيل. 

وبعيدًا عن تلك الوعود الملفقة فى نص دينى يتسم بالخصوصية للمؤمنين به فقط، وغير ملزم لغير المؤمنين به، يجب النظر إلى الادعاءات اليهودية بمنظور تاريخى، وليس بمنظور دينى، ومن الضرورى الحكم على تلك النصوص من وجهة نظر تاريخية، وهذا ما سنتطرق له فى المقال المقبل بمشيئة الله. 

وللحديث بقية.