رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوثائق الإسرائيلية السرية لحرب 73.. قصة مصر اليوم وعلاقتها بانتصار أكتوبر

على مدار ما يقرب من خمسة عقود ومحاولات تزييف حقائق نصر أكتوبر لم تتوقف. بعد النصر بعام واحد كتبت مجموعة من العسكريين والمراسلين العسكريين الإسرائيليين وثيقة مهمة فى كتاب بعنوان «المحدال» أو «التقصير»، وكان لى شرف عرض محتوياته فى سلسلة مقالات بجريدة «الدستور»، كشفوا فيه عن هزيمة حقيقية لإسرائيل لا تقبل الشك. لكن بعد أن استفاق الكيان الصهيونى، بدأ فى محاولات لملمة هزيمته وإذلاله وكسر غطرسته العسكرية والسياسية على أيدى القوات المسلحة المصرية. 
قرر الكيان أن يقوم بأكبر عملية تعتيم وتضليل معلوماتى على ما حدث. نفخوا فى مشهد عابر اسمه الثغرة، وجعلوا منه فخًا معلوماتيًا دعائيًا كبيرًا سقط به للأسف مصريون كُثر على الجانب الموازى أو المصرى.
أذكر مناقشاتى مع بعض الزملاء الذين كانوا يرون أن مصر لم تنتصر، أو أنها انتصرت فى البداية، ثم انتصرت إسرائيل أو أن الحرب كانت تعادلًا، وبعضهم حاول التشبث بما كتبه الراحل سعد الدين الشاذلى فى مذكراته ليدلل على وجهة نظره تلك.
قطعًا كان للجماعات التكفيرية دور فى التعتيم على النصر الوطنى، وكلنا نتذكر وقاحة محمد البلتاجى وهو يصف علانية الجيش المصرى، بعد عام ٢٠١١م، بأنه جيش النكسة، والقطعان حوله تحتفى بأكاذيبه الوقحة، وتجاهل خطباء المساجد هذا النصر أربعة عقود كاملة حتى لو صادف يوم الجمعة السادس من أكتوبر، حتى تم أخيرًا تصويب هذا الفكر الضال وأصبحنا نسمع عن نصر أكتوبر فوق منابر مساجدنا.
ورغم أهمية كتاب «التقصير» الذى نوهت إليه، فإنه يبقى رؤية شخصية لمجموعة معينة خاضت معارك بعينها، لكن حين نكون أمام وثائق رسمية إسرائيلية تم الكشف عن سريتها بعد أربعة عقود كاملة من نصر أكتوبر، فهذا يعنى أننا نفتح بوابة تاريخ حقيقية نطلع من خلالها بشكل لا يقبل التشكيك على حقيقة ما حدث يوم السادس من أكتوبر حتى وقف إطلاق النار. فى حديثى هذا أتناول قصتين مختلفتين، لكنهما تندرجان تحت نفس العنوان وتتمتعان بنفس الأهمية، عن توثيق إسرائيلى رسمى لما حدث فى أكتوبر تم حجبه عمدًا لعدة عقود بعد النصر المصرى.. وقصة ثالثة أخيرة عن مصر المعاصرة بعد مرور أكثر من نصف القرن على نصرها الأكبر.
تبقى القصة الأهم.. قصة مصر وحرب أكتوبر بعد الانتصار المعجز.. أعتقد أن المسمى الدقيق لهذه الوثائق أنها وثائق رد الاعتبار للمصريين والرد على السفهاء وفاقدى الثقة فى أنفسهم، الذين حاولوا عبر عدة عقود تشكيك المصريين فى نصرهم الأعظم فى تاريخهم المعاصر. لدينا حالة غريبة، قادة إسرائيل العسكريون والسياسيون صدقوا فى شهاداتهم أمام لجان التحقيق بعد أن أقسموا على ذلك، ولأنهم يعرفون قيمة أقوالهم لصالح دولتهم للاستفادة من هزيمتهم، وهم أيضًا يعرفون أن تلك الشهادات سرية ولن تصل إلينا على الأقل لمدة عقود. استفادت إسرائيل بالفعل من تلك الشهادات وأنشأت أفرع مخابراتية جديدة منها قسم اسمه «العكس هو الصحيح» ومهمته تلقى تقديرات المخابرات ومحاولة وضع تصور عكسى لها. ومنها فرع جديد لتقدير الموقف.. هؤلاء القادة أنفسهم كذبوا على العالم عن عمد ولدواعٍ قومية تصب فى صالحهم. قرروا- عكس ما حدث وشهدوا به رسميًا- أن يبدأوا فى نسج رواية كاذبة تروج لانتصار إسرائيل وأن المصريين لم يحققوا نصرًا معجزًا. بدأت آلتهم الدعائية فى ترويج الرواية الكاذبة للتأثير على الروح المعنوية للمصريين، ولتقوية جبهتهم الداخلية. كل هذا منطقى تمامًا، لكن غير المنطقى هو أن يقع بعض المصريين فى هذا الفخ ويتطوعوا لترويجه بين باقى المصريين. 
لدينا مصريون من النخبة قاموا بنشر كتب ومقالات تحاكم نصر أكتوبر وتنحاز لتلك الرواية الصهيونية الكاذبة. هؤلاء كانوا دائمًا يشككون حتى فى مصداقية الأعمال الدرامية الوطنية والمخابراتية المتعلقة بأحداث النصر. سمعنا عبارات السخرية من شخصيات قامت بدور عظيم، فرأفت الهجان أصبح «الهجاص»، وشخصية «محسن ممتاز» أصبحت مادة للسخرية. والآن يثبت أن تلك الأعمال رغم عظمتها لم ترتق بشكل جماعى لتقديم صورة منصفة لإعجاز المصريين الذى بدا من خلال تلك الوثائق أنه أكبر بكثير مما ورد فى سياق هذه الأعمال، وربما يكون لدواعى الأمن القومى أن يتم حجب كثير من الصفحات، لأننا سنظل دائمًا فى جبهة مواجهة ما دام الكيان باقيًا. 
وكتاب «سعد الدين الشاذلى» أصبح فجأة هو المرجع الأوحد للحرب العظمى فى تاريخ مصر. رغم أن الخلاف الذى نشأ بينه وبين القادة كان طبيعيًا، وكانت رؤيته خاطئة ولو تمت الاستجابة لها لكانت حققت بشكل مباشر هدف إسرائيل حسب الوثائق. ففى عبارة وردت صراحة قال رئيس الأركان الإسرائيلى: «نريد أن نضرب الروح المعنوية للمصريين!» وهذا هو سبب رفض السادات ومعه باقى القادة رؤية الشاذلى التى احتوت على انسحاب مصرى من شرق القناة لغربها، ورفض القادة ذلك حرصًا على تماسك القوات المصرية وحرصًا على روحها المعنوية التى كانت بالفعل مستهدفة.. وثبت صواب موقفهم. تأثر «الشاذلى» بشكل شخصى وانتصر فى كتابه لشخصه لا للمنطق العسكرى السليم. لقد خدعونا لسنوات عن طريق نشر رواية الشاذلى والتشكيك فى حقائق ما حدث.
خلاف الشاذلى مع باقى غرفة العمليات كان أقل بكثير جدًا من الخلافات التى نشبت بين قادة إسرائيل منذ حرب يونيو وحتى نصر أكتوبر، بدءًا من خلاف «شارون مع بارليف» حول طبيعة الخط الذى يجب تدشينه على خط القناة، وصولًا إلى خلافاتهما أثناء الحرب. ولهذا أفرد رئيس لجنة التحقيق أسئلة كثيرة عن تفاصيل «رؤية شارون ورؤية بارليف والجنرال طل»، وعن كيفية اتخاذ القرار.. وفى هذه الأسئلة تم توجيه اتهامات الرشوة.
خلافاتهم الكبرى بقيت حبيسة الوثائق ولم نعرف عنها الكثير إلا بعد مرور عقود، بينما خلاف الشاذلى ورؤيته الخاطئة أصبحت فى مصر مادة إعلامية دائمة لمدة تزيد على عقدين. لسبب واحد أنه، رحمه الله، قام بنشرها فى كتاب فقط انتصارًا لوجهة نظره. 
اتهموا «السادات» بالخيانة، سواء من يطلق عليهم اليساريون والقوميون أو خونة الفكر المتطرف. اتهموه بالعمالة للولايات المتحدة وبالصهينة، ثم أنصفته الوثائق الإسرائيلية الحقيقية بالإعلان عن رفضه التفاوض أكثر من خمس عشرة مرة قبل استرداد مصر شرفها العسكرى، حسب تعبير الصهاينة أنفسهم.

لقد أصابنى الذهول وأنا أقرأ كثيرًا من تفاصيل هذه الوثائق. ولم يكن مصدر ذهولى عدم تصديق أن ينجح المصريون لهذه الدرجة، فيقينى بعظمة ما حدث لم يتزعزع عبر سنوات العمر، وإنما كان نابعًا من حجم التشويه والتضاد الذى حاولوا إسقاطنا به.. وثار فى عقلى هذا التساؤل.. إلى هذه الدرجة نجحوا هم فى تمرير باطلهم وأكاذيبهم، وفشلنا نحن فى الدفاع عن نصرنا؟. ولماذا؟.
أما لماذا فإجابتها واضحة لدىّ تمامًا.. كان هناك مسئولون مسئولية تامة عن ذلك. أضع أولهم فى مرمى الاتهام، جميع المؤسسات الدينية فى مصر فى أعقاب النصر وحتى قيام ثورة يونيو. فهؤلاء هم من ضربوا أستارًا متعمدة من التجاهل للنصر الأعظم، وهم مسئولون عن غرس حالة الانهزامية فى وجدان المصريين، وهم من رفضوا الاعتراف بفكرة الأمة المصرية المنتصرة وانتصروا لباطل أننا جزء من أمة مهزومة. وقد كتبت أكثر من مرة تفصيلًا عما قاموا به. 
وهناك مؤسسات تعليمية سقطت فى فخ الفكر الوهابى وأسهمت فى مؤامرة التعتيم على نصرنا الأعظم، وظلت لعقود تقدم قصصها ورواياتها التعليمية عن أبطال غير مصريين ولم تحاول إلا مؤخرًا أن تقترب من تقديم أسطر قليلة عن آلاف الأبطال المصريين. 
المؤسسات الثقافية والسياسية التى سقطت فى بكائيات يسارية خارج التاريخ عقب اتخاذ مصر قرارها المشروع بعد نصرها بأن تجنح للسلام الشريف غير المهين. قضوا عقودًا يتباكون على خيانة قادة مصر وهم كانوا أجهل من دابة يهرفون بما لا يعرفون. 
لدينا قائمة طويلة من المتهمين بمحاولة تزييف الوعى المصرى فيما يخص نصر أكتوبر. وهم جميعًا كانوا أشبه بمتطوعين فى كتيبة صهيونية دعائية تقدم دعمها المجانى لنشر الأكاذيب الصهيونية المتعمدة.

حتى الآن هناك الساقطون فى الوحل من المصريين الذين يستغلون وسائل التواصل لاستكمال سقوطهم بالسخرية من قوة مصر الصلبة.. بعضهم سخر من مصر قائلًا: إن مصر الآن حين تغضب ترد على إسرائيل بفيلم «الممر». وأنا أقول لهم: من حق المصريين الآن أن يستمتعوا بفيلم «الممر» وغيره من الأعمال الوطنية التى توثق لحقائق لا لأوهام دعائية باطلة. 
فهل مصر الآن ضعيفة أو مقصرة أو عاجزة تكتفى بعرض الأعمال الدرامية؟
ما لا يفهمه مصريون كثيرون هو فكرة الحقب التاريخية المختلفة. فمنذ قيام إسرائيل وحتى حرب يونيو هو مرحلة.. ومن يونيو إلى أكتوبر مرحلة.. وما بعد أكتوبر مرحلة ثالثة. 
منذ قيام إسرائيل دفعت مصر الثمن بالدم والاقتصاد دفاعًا عن قضية عربية موحدة اسمها فلسطين. ثم دفعت مصر بعد ثورة يوليو ثمن مواقفها فى مساندة حركات التحرر العربى بالسلاح والسياسة والمال. هوجمت مصر أكثر من مرة حتى انتهى الأمر باحتلال أراضيها فى يونيو. حتى ذلك التاريخ كان العرب يصطفون خلف القيادة المصرية، ويعتمدون بشكل رئيسى على مصر فى المواجهة. ولم تخذلهم مصر وارتضت بدورها ودفع شعبها الثمن. 
بعد يونيو تغير الأمر وبدت الصورة واضحة.. فلم يقدم العرب لمصر ما يمكنها من تحرير أرضها. ولم يكن مقبولًا مصريًا التراضى على احتلال أرضها والاكتفاء بما يسمى المقاومة.. لم يكن هناك بديل لمصر غير استرداد أرضها. لا ينكر منصف مساندة دول عربية مصر فى الاستعداد للمعركة. لكن يجب من باب الإنصاف أن نضع هذه المساندة فى سياقها الصحيح. فهى.. 
أولًا: ليست إلا بعض ردٍ لما قامت به مصر عبر ما يقرب من ثلاثة عقود سابقة. كان فضلها سابقًا وغزيرًا، فكانت المساندة العربية منطقية وغيرها هو غير المنطقى. 
وثانيًا: لم تكن هذه المساندة تامة، فقد ثبت خيانة البعض. 
وثالثًا: لم تكن هذه المساندة هى المكون الرئيسى فى الانتصار، لأن المكونات الرئيسية كانت فى العنصر المصرى تخطيطًا وتسليحًا وقدرة قتالية وصمودًا ولمن يريد أن يفهم عليه قراءة أسباب هزيمة السوريين ليدرك الفارق. ثم كان التسليح السوفيتى الذى لم يكن كما تدعى إسرائيل مطلقًا. 
ورابعًا: إن هناك دولًا عربية قررت تقديم مساندتها بعد نشوب الحرب بالفعل، وبعضها لم تتح له المشاركة فى المعركة. 
لكن مصر لم تتنكر وتحدثت دائمًا عن أكتوبر بوصفه نصرًا عربيًا رغم تحفظى الشخصى على هذا الوصف، لكنه الوصف الكريم من الدولة الكريمة. 

إذن تقدمت مصر الصفوف العربية لعدة عقود وحاربت وقدمت آلاف الشهداء حتى استطاعت استعادة قناة السويس وتحقيق انتصار كبير يمكنها من استعادة باقى أرضها بالمفاوضات.. ومعروف أن إسرائيل لا تترك أرضًا احتلتها إلا وهى مجبرة. وهنا نصل لمرحلة جديدة تمامًا. أعلن العرب عن رفضهم وانسلاخهم عن مصر. اتهموها بالخيانة بأصوات زاعقة. وقرروا مقاطعتها ورفضهم لقيادتها معركة السلام. 
فى اليوم الذى خلا فيه المقعد الفلسطينى سقطت شرعية المراحل السابقة وأعلنت وفاتها، وفى اليوم الذى تم إعلان مقاطعة مصر عربيًا بشكل رسمى ونقل مقر الجامعة تدشنت مرحلة جديدة تمامًا لها شرعيتها ومفرداتها. هذه المرحلة تقول إننا أصبحنا معسكرين مختلفين تمامًا.. الأول هو المعسكر المصرى الذى خاض منفردًا حرب المفاوضات، والمعسكر العربى الذى قاطعها وخونها. 
كل ما تلى هذه المشاهد يجب أن يُرى فى هذا السياق.. سنوات طويلة عمل خلالها كل فريق حسب مفردات المرحلة الجديدة وحسبما رأى، وكشخصية سياسية مستقلة تمامًا عن الفريق الآخر، حتى استعادت مصر علاقاتها مع الدول العربية.. 
هذه العودة لا تنفى مشروعية وحقيقة الاختلاف واستقلال كل فريق عن الآخر.. ولم تكن تستطيع أن تحذف من التاريخ كل التطورات السياسية التى جدت منذ لحظة الافتراق وحتى لحظة تلك العودة. 
عاد العرب لمصر وعادت لهم لكن بشخصيات جديدة ومفردات جديدة. فمصر قدمت ثمنًا كبيرًا للوصول لنقطة قوة عربية، وقام العرب بإهدارها. فهل المطلوب من مصر أن تعيد دفع الثمن ثانية لمجرد اعتراف العرب بأنهم كانوا على خطأ؟. من هو هذا المعتوه سياسيًا الذى يدعى أن إدارة شئون الدول تكون بهذا الشكل الذى يقرب إلى جلسات المقاهى؟.
مصريون كُثر لا يدركون هذا. لا يدركون أن نقطة الانفصال كانت فى سبعينيات القرن الماضى وليس اليوم. وأن على كل مسئول عن دولة أن يدفع ثمن قراره. ولكن رغم ذلك فمصر لم تدر ظهرها لقضايا العرب وساندتها بقوة وحتى اليوم تفعل ذلك وتستمر فى دفع الثمن. لكنها نضجت وأدركت أن قائمة أولوياتها أصبحت مصر أولًا وقبل أى وكل شىء، وبعضهم لم ينضج ويعتقد أنه يمكنه أن يستدرجها للفخ مجددًا بمجرد ابتزازها شعبويًا. أن يفرض عليها ولها خط تسير عليه. لا فلم يعد هذا ممكنًا أبدًا بعد يوم الانسلاخ الأكبر عنها.. كان قرارهم وليس قرارها. 
هل مصر اليوم ضعيفة أمام الكيان الصهيونى؟.
يعتقد بعض المصريين الواقعين فى الفخ أن بلادهم ضعيفة عاجزة، ولهذا لا تقوم بمشاهد مثل التى قامت بها فى العقود المشار إليها. كما ذكرت عليهم أن يتعلموا بعض السياسة والتاريخ. لكن ربما يكون مفيدًا أيضًا أن نحاول إجابة التساؤل.. كل الشواهد تقول إن العكس هو الصحيح تمامًا. أول هذه الشواهد هو السلوك السياسى الصهيونى. لو شكوا للحظة واحدة فى قوة مصر لكانوا الآن يخوضون معركتهم فى سيناء لا فى لبنان. بنك الأهداف الذى وضعه الكيان كان فى الأساس موجهًا لمصر ولدفع فلسطينيين إليها. ثم استفاقوا على الحقيقة.. توهموا بأنه بإمكانهم استغلال وجود القوات الأمريكية فى المنطقة فاخترقوا بعض بنود المعاهدة لاستفزاز مصر أو التحرش العسكرى بها فى ظل وجود مظلة أمريكية عسكرية.. فردت مصر فى اليوم التالى باختراق أقوى فى مشهد بقيادة رئيس الأركان ذاته فصمتوا. 
مصر اليوم من الناحية العلمية العسكرية أقوى بكثير من أكتوبر. مصر تصنع بعض أسلحتها. لم تتغير العقيدة القتالية. ملايين من المصريين مؤهلون للانضمام للقوات المسلحة وقت الحاجة. الأجهزة الاستخباراتية المصرية هزمت بالفعل مؤامرات كثيرة منذ عام ٢٠٠٨م وحتى الآن. إسرائيل تدرك هذا أكثر مما يدركه المصريون. 
إسرائيل تدرك أن مواجهة ميليشيات مهما تكن قوتها تختلف كلية عن مواجهة الجيش المصرى.. أذكر هنا خوفهم من فكرة عبور القناة للضفة الغربية وهم محتلون سيناء. تأثرهم برأى قادتهم الدينيين يصب فى صالح مصر لا العكس، فرغم أوهامهم عن إسرائيل الكبرى، فهؤلاء القادة الدينيون يرتعدون من صفحات التاريخ القديمة والمعاصرة ويدركون أن مواجهة المصريين قد تكلفهم الفناء. هذه حقيقة سطعت فى الوثائق حين رضخ وزير الدفاع لرأى وزير الأديان الذى خوّفه من عبور القناة. 
مصر قوية ومدركة للمشهد وموقفها يتلخص فى عبارة الرئيس التى وجهها للمصريين فى الأسابيع الأولى بعد هجمات السابع.. «إنت عندك آه.. بس اللى عندك علشان تدافع بيه عن بلدك».. هذا هو الخلاصة التى لا يفقهها المشككون. وموقف مصر هذا هو موقف منطقى عادل تمامًا لا انهزامية به. فهو موقف متسق مع ما حدث بعد قرار العرب الانسلاخ عنها وعدم خوض معاركة التفاوض معها. منذ ذلك التاريخ أصبحت قدرات مصر للمصريين فقط دون الإخلال بعلاقاتها التاريخية ودفاعها السياسى المشروع عن الحق العربى. فالتاريخ لا يسير إلى الخلف أبدًا، لقد أصبح لكل منا طريقه المستقل.

هناك مثل إنجليزى يقول: «الأوانى الفارغة تصدر ضوضاءً أكثر».. ينطبق هذا حرفيًا على كثير من وجوه ما يسمى بالنخبة العقلية المصرية. كيف تسلل بعضهم للصفوف الأولى وهم بهذه الدرجة من السطحية والتفاهة والفراغ العقلى المعلوماتى؟. يراودنى هذا السؤال كثيرًا جدًا حين أصطدم بموقف أحدهم فى قصة مصر المعاصرة. لا يمكن الدفع بالجهل فى هذه الحالة التى نتحدث بها عن كُتاب أو روائيين أو صحفيين أو إعلاميين، لأن شرعية تصدرهم هى الثقافة والمعلومات. كيف يكون بعضهم بهذا التداعى والانهزامية؟. أحدهم يقول مثلًا عن مشاهد إيران العبثية: دعونا نفرح حتى لو كانت «صواريخ رمضان».. دعونا نفرح بأى مشهد انتصار.. إلخ.. وإحداهن كتبت: «كلنا خونة».. وكثيرون حاولوا ترويج أننا بسبب اختلاف عقائدى مع حزب الشيطان نعاديه ويجب أن ننحى خلافاتنا جانبًا. 
أين وكيف تعلم هؤلاء؟. من قرر أن يكونوا نجومًا تفرد لهم صفحات أو شاشات مصرية؟. 
كيف يكون كاتب أو روائى يقدم برنامجًا تليفزيونيًا وهو يجهل مفردات تاريخ مصر المعاصر ويجهل أبجديات علوم السياسة ويتجاهل فكرة مراحل التاريخ؟. كيف يعرض بعضهم بموقف بلاده وهو يتابع منذ ٢٠١١م كل ما واجهته؟. 
كيف يجهلون أن سبب احتلال لبنان مرات عديدة هو التمزق الطائفى ووجود ميليشيات على حساب الجيش الوطنى؟. منذ متى تنجح الميليشيات فى دولة غير محتلة أن تحل بديلًا عن الجيش المؤسسى؟. لبنان لم يكن محتلًا يوم السابع من أكتوبر.. حزب الشيطان قرر أن يوقعه تحت الاحتلال وهو مخترق لأذنيه وغير قادر على حماية قياداته. قطاع غزة لم يكن محتلًا قبل السابع من أكتوبر وكانت الضفة غير محتلة وكانت هناك حكومة صهيونية متطرفة سوف تغادر قطعًا، وسوف يكون هناك دعم عربى لاستكمال المفاوضات.. لكن الميليشيا قررت أن تسحق قطاع غزة بعمل أهوج. كانت «المقاومة الفلسطينية الواحدة» تقود شعبًا أرضه محتلة فمزقت الميليشيات المتأسلمة المقاومة وقدمت أعظم خدمة للاحتلال.
فى فترة ما بعد الانسلاخ سياسيًا عن مصر، قام بعضهم بوضع مصر فى خانة واحدة كعدو وقاموا بأعمال عدائية مسلحة صريحة ضدها، ومصر أصرت على الفصل بين هذه المشاهد ومساندتها للحقوق العربية.
كيف لا يدرك هذه الحقائق كاتب أو صحفى أو روائى أو مخرجة أو فنان؟. وإن كانوا بهذه الدرجة من الجهل والسطحية فلماذا لا يصمتون؟. مصر حقيقة مصابة فى نخبتها العقلية والدينية. إلى الآن ما زلنا نتناقش فى أبجديات ومفردات أيهما يكون رقم واحد الوطن أم الدين؟. ومن الذى أوجد هذه الازدواجية من الأساس؟ إنهم رجال الدين يصرون- أحيانًا فى مستوياتهم الأعلى- على خلق هذه الازدواجية ويعرضون بموقف مصر ويتخذون أحيانًا مواقف تتعارض مع صلاحيات الحكم. الدين لا يعارض الانتماء الوطنى أو استقلال كل دولة بقرارها والوفاء بالتزاماتها القانونية والتزامها أمام شعبها بحماية الأرض والمقدرات والأنفس.. لكن المشكلة فيمن يضعون أنفسهم كقادة أو زعماء ديانات رأسًا برأس مع قادة الدول وجيوشها المشروعة. عفوًا فكل من يتوهم أن تسقط مصر فى هذا الفخ أقول إنكم واهمون تمامًا فسيظل هذا الوطن عصيًا أبيًا على أن تمزقه «عممٌ وعباءات دينية» مهما كان شكلها أو لونها.. مصر الدولة الوطنية الأقدم فى التاريخ وسيظل ملح أرضها من شعبها، وقواتها الصلبة هى درع الأمان العصية على السقوط فى الفخ.
فى النهاية أقول للمصريين: الحق كل الحق فى الاحتفاء والاحتفال بيوم نصرهم الأعظم.. وأن يفخروا بأن الأعمال الدرامية هى قبس بسيط من حقائق كبرى وليست بطولات كرتونية دعائية كما يروج السفهاء وبعض أفراد النخبة الذين تسللوا خلسة لتبؤ أماكن غير جديرين بها.
نحتفى بفيلم «الممر» وننتظره ونحن كلنا فخر به وبأبطاله الحقيقيين.. ننتظر شهر أكتوبر لنحتفل ولنستمتع بأفلام أكتوبر التى شاهدنها عشرات المرات ولنستمتع بحلقات «رأفت الهجان» و«جمعة الشوان» و«عمرو طلبة العميل ١٠٠١» ونراجع معهم جميعًا جميع جملهم الحوارية التى نحفظها عن ظهر قلب.. نرددها معهم وكأنها أنشودة احتفالية.. الذين لا تاريخ لهم ولا مجد حقيقى لهم حين ينتجون أعمالًا درامية مثل هذه الأعمال وقتها تكون السخرية حقًا.. لكن الذين صفعوا الصهيونية وهزموها الهزيمة الوحيدة فى تاريخها من حقهم أن ينتظروا موعد عرض هذا الفيلم أو ذاك.. فهذا حقهم.. أقصد حقنا.