نشوة الاغتيالات.. ستؤدى بإسرائيل إلى كارثة
يعد إنجاز بعض التكتيكات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة فى لبنان، وخصوصًا تصفية الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، وغيره من كبار أعضاء تنظيمه، ومنهم خليفته الذى كان محتملًا، هاشم صفى الدين، نجاحات مهمة للدولة العبرية، لكنها لا تغير الواقع المحزن الذى تعيشه تل أبيب- كما يرى اللواء الإسرائيلى المتقاعد إسحق بريك- إذا لم تحقق إسرائيل الأهداف التى وضعتها لنفسها.. مؤكدًا أن مشكلة غالبية الجمهور الإسرائيلى وقادته، أنهم ينظرون من خلال ثقب الباب، ولا يرون إلا ما يحدث فى وقت معين فى الوقت الحاضر، وما يحدث فى لحظة معينة، ولا يرون المستقبل، أى الصورة العامة، والرؤية طويلة المدى للمستقبل.. ويرى أنه من الحكمة أن تتصرف إسرائيل، لتحقيق عدد من الأهداف، هى الأهم فى هذه المرحلة، ولها الأولوية على ما عداها.. ولأهمية المقال الأخير الذى نشره بريك، فى صحيفة «معاريف» العبرية، فإننا بصدد قراءة فى هذا المقال، لأهميته، استنادًا إلى الخبرة الطويلة لإسحق بريك فى الحرب، ومعرفته بالمآلات التى ستقود المنطقة إليها، بل وخساراتها المحتملة، والخاسر الأول فيها، ستكون إسرائيل.
أهم هذه الأهداف التى يجب على تل أبيب التركيز عليها فى هذه المرحلة، من وجهة نظر بريك، إطلاق سراح المختطفين الذين يموتون فى الأنفاق، لأنه بعد فترة قصيرة لن يكون هناك مختطفون على قيد الحياة بينهم.. عودة النازحين من الشمال والجنوب إلى منازلهم، وترميم الآثار وعودة سبل عيشهم.. استعادة الاقتصاد الإسرائيلى الذى يمر حاليًا بمرحلة الانهيار.. استعادة العلاقات الدولية مع العالم، وهو ما يتجلى هذه الأيام فى عزلة إسرائيل عن العالم، فى إلغاء الرحلات الجوية على نطاق لم تشهده من قبل، وفى الحصار الجوى على إسرائيل، وفى المقاطعة الاقتصادية، وفى الحظر المفروض على شحنات الأسلحة إلى الجيش، وفى القرارات التى ستتخذها المحكمة فى لاهاى، وإخراج دولة إسرائيل من كومنولث الأمم.. استعادة صمود المجتمع الإسرائيلى بعد حرب الاستنزاف المستمرة منذ عام، والتى تُعمّق الكراهية غير المبررة بين شرائح السكان، وتأكل إسرائيل من الداخل.. استعادة قدرات الجيش البرى، الذى لم يعد قادرًا على القتال وتحقيق النصر ولو فى ساحة واحدة.. إنهاء حرب الاستنزاف التى تدمر كل شىء، والتوصل إلى اتفاقيات بوساطة أمريكية ودول أخرى.. لقد حان الوقت لنتنياهو ورفاقه، من أتباع شعارات «تدمير حماس بالكامل» و«إخضاع حزب الله»، أن يدركوا أن هذه الأهداف لا علاقة لها بالموضوع، ومحاولة الوصول إليها تقوده وحكومته إلى قرارات غير عقلانية، وإلى استمرار حرب الاستنزاف التى تُلحق أضرارًا جسيمة بإسرائيل.. ومن خلال تنفيذ هذه القرارات، «قد لا نحقق الأهداف المهمة حقًا والتى يمكن تحقيقها، إذا لم يعد بيبى وأصدقاؤه إلى رشدهم قريبًا»، لأن سلوك بنيامين نتنياهو قد يؤدى إلى انهيار دولة إسرائيل.. فى رأيى المتواضع، يقول بريك، يجب إنشاء تحالف دفاعى إقليمى مع الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة، يقف معًا كجسم واحد ضد محور الشر الجديد: روسيا والصين وإيران.
الآن هو الوقت المناسب لتسوية شئوننا مع حماس وحزب الله من خلال وساطة الولايات المتحدة ومصر وقطر- هكذا ينصح بريك نتنياهو- وبشروط أفضل لنا بعد تصفية نصرالله ورفاقه.. بعد أن أبان بريك عن موقفه الثابت، بأنه لا ينبغى لإسرائيل محاولة إدخال قواتها البرية حتى نهر الليطانى، لأن مثل هذا الدخول لن يكون ناجحًا.. لماذا؟.
يؤكد بريك أن أخطر كذبة تُروَّج الآن، والتى قد تصنع مأساة شديدة لإسرائيل، هى أن الجيش سيخرج إلى هجوم على حزب الله.. ذلك الجيش الصغير جدًا، والذى قُطِعَ إلى ستة فرق، والذى لم يُمكنه القضاء على حماس، لأنه لا يمكنه البقاء فى المناطق التى احتلها، سيواجه مشكلات كثيرة إذا شنّ حربًا واسعة على لبنان.. بين هذه المشاكل، معاناة الجيش بسبب الأمور اللوجسيتة والصيانة والذخيرة وقطع الغيار، خصوصًا وأن لديه دبابات غير صالحة.. وحتى لو تمكّن الجيش من الوصول إلى حدود نهر الليطانى، فإنه سيجد أن عليه المغادرة خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، لأنه لا يوجد مَن يحل مكانه.. وكان وزير الدفاع، يوآف جالانت، قد أقرّ بأنه لا نية للجيش فى البقاء فى لبنان، الأمر الذى يعنى أن خطوة كهذه «لن تحقق شيئًا».. لكن الأخطر من ذلك، أنه «فى اللحظة التى ستشن إسرائيل هجومًا واسعًا على لبنان، فإنها ستتسبب فى اندلاع حرب مع حزب الله، ستتحول إلى حرب إقليمية أيضًا».
وحذر بريك الجمهور الإسرائيلى، الذى عليه أن يفهم أن حزب الله سيبدأ إطلاق آلاف الصواريخ على غوش دان وخليج حيفا وأهداف استراتيجية، مثل المياه والكهرباء وقواعد سلاح الجو والبحر والبر- من اللحظة التى تبدأ فيها إسرائيل هجومًا بريًا على لبنان، وأكد أن حزب الله سيتسبب فى أضرار جسيمة بإسرائيل، «إسرائيل قد تسحق بيروت كلها.. لكن حزب الله سيفعل بإسرائيل الأمر نفسه، فى غوش دان وخليج حيفا».. وحذّر من سيناريو «عواقب دخول كل الجيش اليوم إلى لبنان، لأن ذلك سيؤدّى إلى انفجار فى قطاعات أخرى، مثل الضفة الغربية وعند الحدود مع الأردن ومصر، فى حين أنه ليس هناك جيش ليدافع عن الجميع».
وغوش دان هى قطاع كبير فى إسرائيل، تتكون من منطقتى تل أبيب والوسطى، وجزء صغير من المنطقة الجنوبية.. وتعتبر أكبر منطقة حضرية فى إسرائيل، وتطل على البحر الأبيض المتوسط، وهى موطن لحوالى 45% من سكان إسرائيل.. وتعدُّ دُرّة تاج الاقتصاد فى الكيان، فهى تضم مركز البورصة وتجمُع الاستثمارات والمصارف والشركات الضخمة للتكنولوجيا، وبالتالى، هى العصب المالى الأساسى لإسرائيل، والإدارة الاقتصادية، ومركز التواصل مع العالم.. وفيها تتركّز معظم المؤسسات الحكومية والمبانى الوزارية، ومطار بن جوريون، ومركز محطات القطار الداخلى.
●●●
لقد كان حريًا برئيس الأركان الإسرائيلى، الذى أدخل الجيش إلى لبنان، أن يتعلم من الدروس المستفادة من العملية البرية فى قطاع غزة، حيث قُتل معظم مقاتليه، بسبب الإهمال وعدم اتباع الأوامر والإجراءات وعدم الامتثال، وافتقادهم للانضباط التشغيلى، «لقد بدأنا نتلقى أخبارًا سيئة جدًا عن العديد من القتلى والجرحى منذ اليوم الأول لدخولنا لبنان، وآمل بشدة ألا يكون ذلك نتيجة الافتقار إلى الانضباط العملياتى».. واستطرد بريك بالقول: إن كل ما يجب علينا أن نفهمه أنه حتى احتلال الأراضى فى لبنان لن يجلب لنا نقطة التحول التى طال انتظارها لإنهاء حرب الاستنزاف، لأن الجيش الإسرائيلى سوف يسحب قواته فى النهاية.. علاوة على ذلك، سيواصل حزب الله إطلاق الصواريخ والقذائف الصاروخية على إسرائيل والشمال، من مسافات أكبر من المناطق التى تم الاستيلاء عليها.. وحتى لو أراد الجيش الإسرائيلى البقاء فى المناطق التى احتلها، فليست لديه إمكانية للقيام بذلك، بسبب عدم وجود فائض فى القوات البرية نتيجة التخفيضات الجذرية فى الجيش البرى فى العشرين سنة الماضية.. سيضطر الجيش الإسرائيلى إلى إخلاء الأراضى التى استولى عليها كما حدث فى قطاع غزة ضد حماس، وسيستعيد حزب الله كل الأراضى.
●●●
وينتقل إسحق بريك إلى الشأن الإيرانى، بتأكيده على ضرورة قياس وتنسيق رد الجيش الإسرائيلى على الإطلاق الإيرانى لمائة وثمانين صاروخًا باتجاه إسرائيل- مع الولايات المتحدة، حتى لا يؤدى إلى ردود فعل إيرانية أخرى.. ويجب أن نتذكر، أنه فى لعبة كرة الطاولة هذه بيننا وبين الإيرانيين، قد يأتى الرد الإيرانى الذى سيتم فيه إطلاق مئات الصواريخ فى نفس الوقت على مراكزنا السكانية: على غوش دان وخليج حيفا وكريات، وبئر السبع والقدس.. إن الدمار والخسائر التى ستلحق بإسرائيل ستكون رهيبة.. حتى لو أعدنا لهم جزءًا من هجماتهم، ودمرنا آبار النفط الخاصة بهم، فسيكتب الله لهم البقاء على قيد الحياة، لكن أولئك الذين يتبعوننا، سيكونون عالقين بين إمكانية النجاة من الضربة الفظيعة التى عانينا منها أو عدم النجاة.
فى الجولتين الأوليين، حرص الإيرانيون، بحسب زعمهم، على إطلاق صواريخهم على أهداف عسكرية بحتة.. ورغم أن هناك أيضًا صواريخ تسربت وسقطت فى مناطق مأهولة بالسكان، إلا أن هذا لا يقارن بالوضع الذى ستُطلق فيه مئات صواريخها على مراكزنا السكانية عمدًا.. نحن بلد صغير يتركز سكانه بكثافة كبيرة فى المدن الكبرى، بينما تنتشر إيران وأهدافها على مساحات شاسعة.. «حتى لو وجهنا إليهم ضرباتنا وضربناهم بشدة، فسوف ينجون.. أما نحن؟.. فلست متأكدًا».. ومن عجب أن أسمع مؤخرًا- يقول بريك- بعض المحللين العسكريين والمراسلين المعروفين فى وسائل الإعلام يقولون إن هذا هو الوقت المناسب لتوجيه ضربة للإيرانيين فى أرواحهم، لا يتعافون منها أبدًا.. لكن هؤلاء لا يخبرون الجمهور بالضربة التى ستوجه إلينا.. الويل لدولة إسرائيل، لأنها تشكل رأيها العام، والويل لدولة إسرائيل لأنها لم تجعل المعلومات فى متناول الجمهور.
وبما أنه تم القضاء على حسن نصرالله ودخلت قواتنا إلى أراضى لبنان، علينا أن نرتب- بوساطة أمريكية ودول أخرى- حزامًا أمنيًا حول مستوطناتنا القريبة من الحدود، فى شمال البلاد وفى جنوبها؛ ويجب إطلاق سراح المختطفين وإعادة عشرات الآلاف من النازحين إلى منازلهم.. لكن ليس لدى انطباع بأن بنيامين نتنياهو مستعد للذهاب إلى اتفاقيات التسوية بين إسرائيل وحزب الله وحماس.. إنه يريد مواصلة القتال للحفاظ على حكمه.. ولا يزال يتصور وحكومته «التدمير الكامل لحماس»، و«إخضاع حزب الله» والقضاء على آيات الله الإيرانيين، لأن رئيس الوزراء هذا لا يزال فى حالة غطرسة أو «نشوة» ما بعد الحرب، بالقضاء على نصرالله.. يتجاهل الواقع من حوله تمامًا، ويعيش فى واقع افتراضى.. ووفقًا له- أى نتنياهو- يمكنه أن ينتصر فى الحرب ضد إيران ووكلائها.. وبمعنى آخر، فإنه لا يدرى أن العالم العربى أصبح معاديًا لنا.
وبدلًا من سلوك الطريق السريع، والوصول إلى تسويات بوساطة أمريكية ومصرية، فى ظل نجاحات سلاح الجو ضد حزب الله، يواصل نتنياهو حرب الاستنزاف، التى قد تجلب لنا لاحقًا حربًا إقليمية متعددة المجالات، ستؤدى إلى أضرار قاتلة للدولة اللبنانية.. وحتى لو لم تندلع حرب إقليمية متعددة المجالات فى هذه المرحلة، فإن استمرار حرب الاستنزاف المستمرة منذ عام، سيسحق إسرائيل فى كل المجالات التى ذكرتها.. وتذكروا جيدًا- يقول بريك للإسرائيليين- إن إيران ووكلاءها لم يتخلوا عن فكرة تدمير إسرائيل، وتندفع إيران نحو القنبلة النووية، وقد نجد أنفسنا فى غضون سنوات قليلة أمام إيران مسلحة نوويًا، وقد وقد..
ويشهد بريك، بأن نتنياهو نجح فى خلق عداء مصر المتزايد تجاه إسرائيل.. لذلك، قامت القاهرة ببناء أكبر وأقوى جيش فى الشرق الأوسط، كما يتم تجهيز كل استعدادات وتدريبات الجيش المصرى.. وأغلبية تزيد على 60% فى الأردن هم من الفلسطينيين الذين يكرهون دولة إسرائيل ويخضعون للمؤثرات الخارجية.. وإذا أضفنا إلى ذلك رغبة إيران فى بناء ميليشيات موالية لها على حدودنا الشرقية، فيجب على إسرائيل أن تحتفظ بقوات على الحدود الإسرائيلية- الأردنية التى يبلغ طولها أربعمائة كيلومتر.. واليوم ليست لدينا قوات حتى للدفاع.. ناهيك عن الحدود المصرية.. ويعيد السوريون أيضًا بناء جيشهم بمساعدة الروس، وفى غضون سنوات قليلة سيشكلون تهديدًا حقيقيًا، سيتطلب من قوات الجيش الإسرائيلى الوقوف ضدهم.. بالإضافة إلى حرس وطنى فى إسرائيل للحماية من مثيرى الشغب المتطرفين.. ولهذا، نحن بحاجة إلى الهدوء لوقف التدهور المستمر فى جميع المجالات التى ذكرتها، يقول بريك.
■■ وبعد..
فإنه فى ضوء هذه الوقائع والسيناريوهات، تطرّق بريك إلى ما يجب أن تكون عليه أهداف الحرب فى قطاع غزة والشمال، فى هذا الوقت، مشيرًا إلى أن «هناك طريقًا واحدًا للخروج من هذا كله، وهو مرتبط بالحديث عن الأسرى.. فمن الواجب على إسرائيل اليوم أن توقف القتال وتُعيد الأسرى، على أمل أن يؤدى وقف القتال فى غزة إلى وقف القتال ضد حزب الله».. وأهم ما يجب أن تفعله إسرائيل بعد تحقيق التهدئة، هو حلف دفاعى مع الولايات المتحدة، لأنّه ليس لديها أى أمل فى الحرب، التى قرر بنيامين نتنياهو أن يستمر فيها مع كل الدول العربية، فى الوقت الذى ليست لدى إسرائيل موارد للاستمرار فى المواجهة، وليس لديها نفَس طويل، ولا تمتلك القدرة على الانتصار فى الحرب.. إلا أن نتنياهو وجالانت ورئيس الأركان، هرتسى هاليفى، بدلًا من ذلك، «تسبّبوا فى أكبر إخفاق فى إسرائيل فى غلاف غزة، والآن يتسبّبون فى ثانى أكبر إخفاق منذ قيام إسرائيل، متمثلًا بالهزيمة أمام حماس، وعدم استعدادهم لإعادة الأسرى عبر اتّفاق، انطلاقًا من فكرة مفادها أن الجيش الإسرائيلى سيُقوّضها بعد وقت قليل»، وهو أمرٌ «لا أساس له من الصحة.. لأن الحقيقة تؤكد أن إسرائيل خسرت هذه الحرب فعلًا».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.