رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عامٌ من الحرب.. وحماس ما زالت تقاتل!

قبل ستة أشهر من هجوم السابع من أكتوبر، كان زعيم حماس فى قطاع غزة، يحيى السنوار، يجتمع مع رجال أعمال فلسطينيين زائرين فى القطاع، عندما أخبرهم بكشف صادم.. كانت حماس تخطط لشىء كبير: «ستكون هناك مفاجأة»، هكذا قال أحد المشاركين فى الاجتماع.. وبينما لم يقدم تفاصيل، ألمح إلى أن الاستعدادات كانت جارية منذ فترة طويلة فى غزة نفسها، داخل شبكة حصون حماس تحت الأرض.. ثم أضاف السنوار: «الله سيساعدنا»، إلى أن كشفت خطة السنوار السرية عن نفسها، صباح يوم سبت يهودى، قبل عام، مع اجتياح موجات من المهاجمين لمستوطنات وقواعد عسكرية إسرائيلية، أسفرت عن مقتل حوالى ألف ومائتى شخص، واحتجاز حوالى مائتين وخمسين رهينة.. لكن طبيعة استعدادات السنوار كيف سلحت الجماعة نفسها للهجوم، بينما تقوم فى الوقت نفسه بهندسة دفاع متطور ومتعدد الطبقات، ضد الرد العسكرى الإسرائيلى الحتمى؟ لم تتضح إلا تدريجيًا، فى الأسابيع والأشهر من القتال العنيف الذى أعقب ذلك.

وقد جلبت الأدلة، التى تراكمت خلال العام الماضى، وضوحًا جديدًا للتخطيط العملياتى لحماس قبل السابع من أكتوبر، وكشفت كيف ومن أين حصلت على الوسائل اللازمة للهجوم نفسه، ومرحلة المقاومة المدروسة بعناية، والتى صممت لتستمر لمدة تصل إلى اثنى عشر شهرًا.. ويُظهر كيف أن حماس، على الرغم من سنوات من العزلة داخل قطاع مكتظ بالسكان على مساحة ضيقة من الأرض، حصلت على ترسانة مذهلة من الصواريخ والمتفجرات والأسلحة الصغيرة، بينما كانت تبنى الشبكات المادية والدفاعية، التى مكَّنت السنوار وأتباعه من الصمود لأشهر، تحت هجوم عنيف من قِبل أحد أكثر الجيوش قدرة فى المنطقة.

وعبر الحدود الشمالية لإسرائيل، تعيش قوات حزب الله اللبنانية نوعًا من حالة الارتباك، بعد أن قتلت القوات الإسرائيلية أمينها العام، حسن نصر الله، ودمرت هيكل قيادتها، فى سلسلة من العمليات الأخيرة التى كشفت عن اختراق عميق للحزب، من قِبل المخابرات الإسرائيلية.. ولكن بعد مرور عام على هجمات السابع من أكتوبر، لم ينج السنوار الذى درس التكتيكات الإسرائيلية خلال سنوات فى السجن، واشتهر لاحقًا باجتثاثه الوحشى للمشتبه فى تعاونهم مع إسرائيل فحسب، بل وضع بالفعل الأساس لعودة ظهور الحركة.

صحيفة «واشنطن بوست»، أجرت مقابلات مع أكثر من عشرين محللًا عسكريًا واستخباراتيًا، إسرائيليًا وأمريكيًا وعربيًا، تحدث العديد منهم بشرط عدم الكشف عن هويتهم، لمناقشة التقييمات الاستخباراتية الحساسة.. كما أجرت مقابلات مع مسئولين، حاليين وسابقين، فى حماس والسلطة الفلسطينية، تحدث بعضهم، مثل رجل الأعمال الذى التقى السنوار فى ربيع عام 2023، بشرط عدم الكشف عن هويته، خوفًا من الانتقام.. وتصف الروايات، كيف أصبحت حماس، تحت قيادة السنوار، تركز بلا هوادة على تحقيق الاكتفاء الذاتى، بما فى ذلك القدرة على إنتاج أسلحتها ومتفجراتها، وتنفيذ عمليات معقدة، يشارك فيها آلاف المقاتلين، مع الحفاظ على السرية التامة.

جمعت حماس عشرات الملايين من الدولارات، وقال مسئولون فى الجيش الإسرائيلى، إن قادة حماس سافروا إلى طهران للتدريب، وقاموا برحلات متعددة إلى لبنان، حيث أنشأت إيران غرفة عمليات لتنسيق التخطيط العسكرى وتبادل المعرفة التقنية.. لكن حماس، التى بناها السنوار، لم تكن مجرد «حركة بالوكالة»، كما قال مسئولون وخبراء.. وإدراكًا منها لقدرة إسرائيل على عزل غزة عن العالم، أمضت سنوات فى إتقان آلة حرب، يمكنها صنع ذخائرها الخاصة، وتنفيذ عمليات دون موافقة خارجية أو حتى معرفة، ثم السماح لمقاتليها بالاختفاء داخل متاهة معقدة تحت الأرض.. محارب تحت شوارع القطاع الساحلى، الذى يُقدر أنه يتكون من مئات الأميال المترابطة من الممرات المقواة والغرف والمخابئ.. فأنفاق حماس، هى أعظم إنجاز هندسى لها.. وبالنسبة للسنوار، هى مفتاح بقائها.. وهنا يقول غازى حمد، عضو المكتب السياسى لحماس من غزة، فى مقابلة مع واشنطن بوست: «لقد نجحنا فى جعل المصانع تحت الأرض، لأننا كنا نعرف أنه فى يوم من الأيام سيتم إغلاق جميع القنوات».

لا شك أن حماس اليوم، فى قوة متضائلة، وفقدت أكبر قادتها المدنيين، إلى جانب عشرات القادة العسكريين، وما يقدر بنحو خمسة عشر ألف مقاتل.. وفقًا لمسئولى المخابرات الإقليمية.. فمخزونات النقد والأسلحة آخذة فى التضاؤل؛ مساحات واسعة من القطاع أصبحت خرابًا.. وقُتل ما يزيد على أربعين ألف فلسطينى، وفقًا لوزارة الصحة فى غزة، غالبيتهم من النساء والأطفال.. وقد دمرت القنابل الإسرائيلية العديد من فتحات أنفاق الحركة، التى يقدر عددها بخمسة آلاف وسبعمائة حفرة.. ومع ذلك، فإن حماس تقاتل.. وقد تحدت قدرات الحركة وتكتيكاتها، التى تم الكشف عنها خلال العام الماضى، مرارًا وتكرارًا، التفكير التقليدى حول حماس الذى كان موجودًا قبل السابع من أكتوبر.. كما أنها تثير مخاوف جديدة، بشأن قدرة الحركة على إعادة بناء نفسها فى غزة، أو فى أى مكان آخر.

كان العديد من المحللين يعتقدون أن حماس كانت تعتمد بشكل كبير على إيران، وقامت بتهريب شحنات كبيرة من الصواريخ والقذائف الإيرانية الصنع، بينما صنعت صواريخ جديدة فى مصانع كبيرة تحت الأرض.. ولكن بعد مرور عام، كشف محققو الجيش الإسرائيلى فى غزة، عن عدد قليل من الأسلحة الإيرانية الصنع، ولم يعثروا على مصانع واسعة النطاق للتجميع الجماعى للصواريخ والقذائف.. وبدلًا من ذلك، وجدوا فى الغالب ورش صغيرة، حيث قام عمال المعادن بمخارط بسيطة بتحويل الأنابيب المعدنية والمواد الكيميائية الزراعية، إلى مكونات للمقذوفات المتفجرة ليتم إطلاقها على المستوطنات الإسرائيلية.

بعد اجتياح الجيش الإسرائيلى، فى مايو الماضى، لمدينة رفح الواقعة فى أقصى جنوب غزة، أفاد قائد إسرائيلى، بأنه لم يعثر على أنفاق تهريب نشطة جديدة تؤدى إلى مصر، كما سبق واعتقد العديد من الخبراء بوجودها.. فى العقد الماضى، عندما كان سكان غزة يمررون البضائع المهربة عبر مئات الأنفاق على طول الحدود، كانت القوات الإسرائيلية تُغلق أحيانًا الفتحات بالخرسانة، لتكتشف لاحقًا أن حماس قد حفرت ممرات جديدة عبر الحواجز.. حتى أن الحركة قامت بتعديل تصميمات الصواريخ، بحيث كانت المكونات صغيرة بما يكفى لتناسب الالتواءات والانعطافات فى الممرات المُعاد تشكيلها.. ولكن بعد غزو رفح، خلص محللو الاستخبارات، إلى أن معظم إمدادات حماس من الأسلحة والمكونات المستوردة، قد دخلت برًا قبل سنوات، فى شاحنات وسيارات، تمر عبر المعابر الحدودية التى تسيطر عليها مصر وإسرائيل، قبل أن تدمر مصر الآلاف من الممرات تحت الأرض، وتنشئ نظامًا من الحواجز بعرض ميل على طول حدودها مع غزة.

لكن المفاجأة الأكبر، كما يقول مسئولون أمريكيون وإسرائيليون، كانت الأنفاق داخل غزة.. لقد فهم مخططو الحرب الإسرائيليون، جيدًا، التحدى الذى يواجهه جنود الجيش الإسرائيلى، فى محاولة هزيمة عدو يمكنه نقل المقاتلين والإمدادات بحرية عبر الممرات تحت الأرض.. لكن حجم ونطاق وتعقيد «مترو» غزة، كما أصبح يُطلق عليه، تجاوز بكثير التقديرات الإسرائيلية.. وعبر مسئولو الجيش الإسرائيلى عن إحباطهم، بعد أن شقوا طريقهم عبر المخابئ على عمق ثلاثين قدمًا تحت شوارع غزة، ليجدوا مهاوى تؤدى إلى أنفاق أعمق، مدفونة على عمق مائة وعشرين قدمًا تحت الأرض.

●●●

«سنأتى إليكم، إن شاء الله، فى فيضان هائج»، هكذا حذر السنوار الإسرائيليين فى تجمع لأنصاره فى غزة، يوم الرابع عشر من ديسمبر 2022.. «سنأتى إليكم بصواريخ لا نهاية لها، سنأتى إليكم فى طوفان لا حدود له من الجنود، سنأتى إليكم بملايين من شعبنا، مثل المد والجزر المتكرر».. السنوار، الذى كان يحلم منذ فترة طويلة بتوجيه ضربة قوية، يمكن أن تعطل الوضع الراهن مع إسرائيل، «تأكد من أن المال والمواد كانت موجودة لسنوات عديدة»، يقول أبوحمزة 33 عامًا وهو قائد فى حماس فى مدينة جنين بالضفة الغربية، وتحدث شريطة أن يتم تعريفه باسمه الحركى لأسباب أمنية.. «حماس بنت بشكل جيد حقًا لهذا الشىء».. داخل الأنفاق، كانت حماس «تخفى أسلحتها وتصنع أسلحتها الخاصة»، بينما تعمل على ضمان قدرة الحركة على الصمود أمام أى ضربة إسرائيلية مضادة.

فى غزة، كنا نعمل ليلًا ونهارًا، 24 ساعة فى اليوم الواحد.. قال غازى حمد، عضو المكتب السياسى للحركة: «لقد استعدينا كثيرًا، ليس لمدة عام أو عامين».. ولكن حتى الأسلحة محلية الصنع، تتطلب أجزاء يجب إحضارها من الخارج.. وكان تجاوز المكونات للحصار الإسرائيلى يمثل تحديًا مستمرًا.. تقريبًا كل جانب من جوانب إنتاج الأسلحة، من الأدوات الآلية إلى المواد الكيميائية الزراعية، للمتفجرات، كان إما موسومًا للاستخدام المدنى، أو مخبأ داخل شحنات من المواد الغذائية أو غيرها من السلع اليومية: «نحن فى وضع يضغط علينا للقيام بكل شىء، وجمع كل شىء.. نحن نواجه عدوًا خطيرًا للغاية، مع الكثير من التكنولوجيا والأسلحة.. ليس من السهل محاربة إسرائيل.. كنا نعرف هذه المعادلة جيدًا».

بدأ الرد الإسرائيلى على السابع من أكتوبر بشكل جدى، بغزو برى، بعد ثلاثة أسابيع، من قوة تابعة للجيش الإسرائيلى، نمت فى النهاية إلى مائة ألف فرد مقاتل.. وفى غضون أيام، كان الجنود الإسرائيليون يغامرون بالدخول إلى أنفاق حماس، وغالبًا مع طائرات استطلاع بدون طيار تحت الأرض، أو شم المتفجرات، عن طريق كلاب فى المقدمة.. الصور التى نشرها الجيش الإسرائيلى فى الأسابيع التى تلت ذلك، قدمت أول لمحة عما جلبته حماس تحت الأرض.. ومن بين النتائج الأولية، كانت مستودعات أسلحة مليئة بالآلاف من الأسلحة، من كل صنف وعيار.. وخلص مسئولو الجيش الإسرائيلى فى النهاية، إلى أن ما يصل إلى 80% من أسلحة حماس، تم تصنيعها فى غزة، من قبل الحركة نفسها.. من بين الأسلحة محلية الصنع، العبوات الناسفة المضادة للدبابات، والألغام المضادة للأفراد من نوع كلايمور والقذائف الصاروخية الحرارية.. تعلمت حماس تعديل الطائرات الصغيرة دون طيار، لإسقاط المتفجرات، كما قال مسئولون فى الجيش الإسرائيلى.

تخصص حماس هو الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، حيث قام صانعو أسلحة حماس بتجميع الآلاف من صواريخ القسام من أنابيب المياه الفولاذية، وتشكيل المعدن فى أجسام الصواريخ باستخدام مكابس معدنية ومخارط، وتعبئة الرءوس الحربية بمئات الأرطال من المتفجرات المصنوعة من السكر وسماد نترات البوتاسيوم.. وعلى الرغم من محدودية مداه، إلا أن صاروخ القسام الواحد لا يكلف سوى بضع مئات من الدولارات.. أسقط نظام القبة الحديدية المضاد للصواريخ التابع للجيش الإسرائيلى الآلاف من هذه الصواريخ، فى الأيام التى تلت السابع من أكتوبر، ولكن بتكلفة حوالى خمسمائة ألف دولار لكل إطلاق.

وبحلول يناير، كان الجيش الإسرائيلى قد عثر على بعض مراكز التصنيع التابعة لحماس، وعثر الجنود الإسرائيليون على مراكز تصنيع مخصصة لإنتاج الأسلحة الصغيرة والذخائر والمتفجرات، وورش عمل أخرى لصياغة الإطارات الأسطوانية للصواريخ.. تألفت بعض مرافق الإنتاج من غرف مترابطة تحت الأرض شكلت خطوط تجميع.. لم تكن هذه مصانع بالمعنى التقليدى، لكنها كانت تفى بالغرض.. «إنها فى الأساس مختبرات مع مخارط»، قال ماثيو ليفيت، مسئول مكافحة الإرهاب السابق فى وزارة الخزانة، الذى درس حماس وأنفاقها لأكثر من عقد من الزمان.. وتتألف أكبر مراكز التصنيع المكتشفة حتى الآن من مجمع، من ورش العمل تحت الأرض، ومستودعات على مستوى الشارع، داهمتها قوات الجيش الإسرائيلى فى يناير تحت منطقة مزدحمة فى خان يونس، وهى مدينة فى وسط غزة.. وباتصالها بأنفاق، كانت بمثابة خط تجميع أسلحة، يمتد لمسافة نصف ميل تقريبًا، وفقًا لخبير أسلحة فى الجيش الإسرائيلى قام بتحليل الموقع: «كان هناك العديد من القدرات المختلفة فى نفس الموقع»، قال المسئول الإسرائيلى.. «لقد كانت عملية كبيرة، استغرقنا حوالى أسبوع لمعالجتها».. وسرًا، وبعيدًا عن أنظار كاميرات المراقبة عبر الأقمار الصناعية، أنشأت الحركة «مجمعًا صناعيًا عسكريًا لحماس»، يمكنه إنتاج مجموعة متنوعة من الأسلحة الرخيصة بكميات هائلة، كما قال ليفيت، الذى يشغل الآن منصب مدير برنامج راينهارد لمكافحة الإرهاب فى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وكانت بعض الأسلحة «تحمل علامات حماس عليها».

●●●

كان الجيش الإسرائيلى على علم منذ فترة طويلة، بالتهديد الذى تشكله الأنفاق.. بعد أن استخدمت حماس الأنفاق العابرة للحدود لاختطاف الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط عام 2006.. نشرت القوات الإسرائيلية أجهزة استشعار، خصوصًا على طول الحدود، سمحت لها بسماع ورؤية ورسم خرائط للجهود المبذولة، لحفر ممرات جديدة إلى الأراضى الإسرائيلية.. ومع ذلك، فاجأ حجم وتعقيد أنفاق الحركة داخل غزة نفسها الجميع، بما فى ذلك أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المتبجحة ونظيراتها الأمريكية.. «لم يفهم أحد مدى اتساع الأنفاق، أو أن هناك العديد من أنواع الأنفاق المختلفة»، قالت دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكى لشئون الشرق الأوسط، خلال السنوات الثلاث الأولى من إدارة بايدن.. ومرددة تقييمًا شائعًا بين المسئولين العسكريين الأمريكيين والإسرائيليين: «إن الفشل فى فهم الأبعاد العديدة لأهم الأصول الاستراتيجية لحماس كان جزءًا من الفشل الاستخباراتى فى السابع من أكتوبر، وهو فشل لم يتم حسابه بالكامل بعد».. وقالت إن محاربة عدو يمكنه التحرك أفقيًا وعموديًا، من خلال ساحة معركة تقع فى مناطق حضرية مكتظة بالسكان، تشكل تحديًا عسكريًا هائلًا: «لا أعرف أن أى جيش حديث واجه تعقيد ساحة المعركة، التى واجهها الجيش الإسرائيلى فى غزة».

كانت الأنفاق تستخدم لإخفاء إنتاج الأسلحة، وفقًا لمحللين إسرائيليين وأمريكيين وعرب، لكنها كانت أيضًا بمثابة شبكة اتصالات ومستودع إمداد، ونظام طرق سريعة وخط أنابيب لوجستى، وملجأ للقنابل ومستشفى ميدانى.. تم استخدام فتحات الأنفاق المخفية، كنقطة انطلاق للكمائن.. وأصبحت أماكن المعيشة تحت الأرض، مراكز قيادة ومرافق احتجاز للرهائن الإسرائيليين.. امتد نظام الأنفاق بحلول السابع من أكتوبر، أكثر من ثلاثمائة ميل، أى أطول من مترو أنفاق مدينة نيويورك، أو حوالى المسافة من تل أبيب إلى جنوب تركيا.. ويعترف الجيش الإسرائيلى، بأنه لا توجد طريقة عملية لتدمير نظام الأنفاق بأكمله.

فى نهاية المطاف، أصبح الجيش الإسرائيلى قادرًا على الدخول تحت الأرض.. لكن الميجور جنرال دان جولدفوس، القائد الإسرائيلى الذى وصفته وسائل الإعلام العبرية، بأنه «مُدمر الأنفاق» التابع للجيش الإسرائيلى، قال إن قواته واجهت فى البداية منحنى حادًا، «كل تعريفاتنا لمهاوى الأنفاق، الأنفاق التكتيكية، الأنفاق الاستراتيجية.. لا شىء من ذلك ينطبق هناك»، هكذا قال جولدفوس لصحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية فى شهر أغسطس.. «إنها كلها شبكة واحدة كبيرة.. يمكنك دخوله من معبر إيرز شمالى قطاع غزة مع إسرائيل، والظهور فى رفح عند الحدود المصرية.. كل شىء هناك مرتبط بكل شىء».. ووصف جولدفوس لحظة دهشته فى فبراير، عندما وصل الجيش الإسرائيلى إلى مركز قيادة السنوار تحت الأرض، الذى تم إخلاؤه على عجل، وهو عبارة عن مجموعة من المخابئ المجهزة تجهيزًا جيدًا، مدفونة فى أعماق شوارع خان يونس.. «وصلنا إلى مجمعات كبار المسئولين ودرسنا هذه البنية التحتية.. لقد انكشف لنا ببطء أمام أعيننا.. وعندما فهمت ذلك، ماذا يمكننى أن أقول، أرفع القبعة لقادة حماس».

●●●

بحلول يوم هجوم السابع من أكتوبر، بلغ عدد الجناح العسكرى لحماس، المدرب تدريبًا جيدًا، حوالى خمسة وثلاثين ألف جندى، بما فى ذلك طليعة من ستة آلاف جندى قوات خاصة، اقتحموا إسرائيل فى وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فى الهجوم الذى أطلقت عليه الحركة اسم «عملية طوفان الأقصى».. وقال غازى حمد، عضو المكتب السياسى، إن الفكرة هى هز إسرائيل فى صميمها وإجبار قادتها على إنهاء الحصار المفروض على غزة، ووقف التوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية، والحد من الغارات على المسجد الأقصى، الذى يقع فوق جبل الهيكل فى القدس، المعروف فى الإسلام باسم الحرم الشريف، ويحظى بالتبجيل من كل من المسلمين واليهود.. وقال، إنه لم يكن على علم بالتخطيط المسبق ليوم السابع من أكتوبر.. لكن السنوار كما قال حمد فهم أيضًا أن إسرائيل سترد بقوة مدمرة.. وقد كرس الكثير من التخطيط والإعداد فى السنوات التى سبقت الهجوم، لضمان أن حماس لن تنجو من الضربة فحسب، بل ستتعافى بسرعة حتى تتمكن من الضرب مرة أخرى.. وستلعب الأنفاق، المليئة بالمؤن والأسلحة التى تكفى لعدة أشهر، دورًا رئيسيًا.. ولكن احتياطيات حماس من السيولة النقدية، ستفعل ذلك أيضًا.

ويعتقد أن حماس ادخرت الملايين من الدولارات نقدًا وعملات مشفرة قبل السابع من أكتوبر، معظمها من عائدات الضرائب والمساعدات المالية التى قدمتها قطر، بموافقة من القادة الإسرائيليين فى السنوات الأخيرة، للحفاظ على اقتصاد القطاع من الانهيار.. استخدمت حماس الأموال خلال العام الماضى، لدفع رواتب المقاتلين فى الجناح العسكرى للحركة، الذين قال حمد إنهم ما زالوا «يعتنون بهم».. لقد مكنت الأموال حماس من الاحتفاظ بقطاع إدارى فعَّال، لتلبية الاحتياجات الأساسية لسكان غزة.. وتشمل كشوف رواتب الحركة خمسين ألف عامل، بما فى ذلك المعلمين والأطباء وطواقم الصرف الصحى وغيرهم.. وكل ما تبقى من المال، هو بمثابة شريان حياة حيوى لسكان غزة، الذين يكافحون من أجل إطعام أسرهم، فى وقت أُُغلقت فيه العديد من الشركات والمتاجر أو دُمرت.. وتعلن حماس بانتظام عن نقاط وأوقات جمع المساعدات لمتلقى المساعدات، مع نشر مواقع جديدة كل شهر.. «لا أعرف من أين تأتى الأموال»، قال موظف فى وزارة العدل فى غزة «ما يهمنى الآن هو العثور على شىء يشبع جوع طفلى».. ولكن بعد مرور عام على الصراع، يبدو أن الصنبور قد بدأ يجف.. وابتداء من الربيع، بدأ العديد من العمال فى غزة يتقاضون نصف رواتبهم العادية فقط، بعدما كانوا يتقاضون رواتبهم كاملة.

يقول محللون، إنه مع الهجوم الإسرائيلى الذى لا هوادة فيه، وندرة الشاحنات الإنسانية التى تحمل المواد الغذائية، وغيرها من الضروريات التى تصل إلى غزة، ربما تصل حماس إلى نقطة اللا عودة، على الأقل فيما يتعلق بإمداداتها من المال والموارد الحيوية الأخرى.. فى حين أن حماس كانت مستعدة لحصار ممتد، إلا أن عامًا من عمليات الجيش الإسرائيلى فى غزة، إلى جانب إجراءات أكثر صرامة من الإسرائيليين على المعابر الحدودية، استنزفت خزائن حماس تقريبًا، كما قال مسئولون.. ويصر غازى حمد على أن حماس لا تزال لديها «قنوات»، لضمان التدفق النقدى إلى غزة، لكنه رفض الخوض فى التفاصيل.

ومع ذلك، لا يزال أحد الأصول الرئيسية لحماس متاحًا للحركة، مع إمدادات لا تنضب تقريبًا.. ويقول محللون إن الدمار الذى لحق بغزة يحفز على التجنيد، ويدفع جحافل من الشباب الذين يشعرون بالمرارة أو اليأس إلى أحضان حماس، «لا يوجد نقص فى المتطوعين الشباب»، قال مسئول استخباراتى عربى كبير.. ربما ليسوا مدربين تدريبًا جيدًا، لكنهم سيساعدون حماس على تعويض خسائرها.. هؤلاء هم الأشخاص الذين فقدوا عائلاتهم، ولديهم دافع واحد: الانتقام.. ويبدو أن حماس، التى لا تزال فى وضع البقاء، تتحول بالفعل إلى مرحلة جديدة من الصراع، يمكن أن تسخر بسهولة أكبر طاقة أعضائها الجدد.. وبدأت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعى من الجناح العسكرى لحماس، كتائب القسام، فى الترويج لتكتيكات التمرد، مثل التفجيرات باستخدام العبوات الناسفة.. وفى أحد الرسوم التوضيحية، على مواقع التواصل، بعنوان «الصيد»، ثلاثة جنود إسرائيليين يقتربون من موضع الألغام.. وناشط حماس فى المقدمة يمد يده ليلمس زناد التحكم عن بعد.. محذرًا من أن «ما خفى كان أعظم وأكثر فتكًا».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.