الشاعر أحمد سويلم يكتب: كنا نُصلح «صهاريج الوقود» تحت القنابل والرصاص
فى ٢٨ نوفمبر ١٩٦٨ توافد على مركز تجنيد القاهرة عشرات الآلاف من خريجى الجامعات من المحافظات المختلفة، ليبدأوا فترة تجنيدهم، وكنت أحد هؤلاء المجندين.
فى منتصف النهار فوجئنا بقدوم الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس الأركان، ليتحدث إلينا بمودة بالغة وترحيب صادق، قائلًا إنه يقدر وجود هذه العقول فى القوات المسلحة، وإنها لا بد أن تسهم إيجابيًا فى تحقيق النصر.. كان حديثًا مغايرًا تمامًا.
جرى بعدها توزيعنا على الأسلحة المختلفة، وجاء توزيعى على سلاح «الوقود» كضابط احتياط. قضيت السنة الأولى بين كلية ضباط الاحتياط والكلية الحربية، ثم وزعت على المستودع الميدانى للوقود «١٠٣» فى منطقة عزبة النخل، حيث تلقينا تدريبات على إمداد أنواع الوقود المختلفة، والتعامل مع المعدات والصهاريج أثناء المعركة، بحيث لا يتوقف هذا الإمداد تحت أى ظروف.
ولا يجوز لنا أن نغفل جهد الزعيم جمال عبدالناصر فى إعادة بناء القوات المسلحة، وبدء «حرب الاستنزاف» بعد حدوث «النكسة» بأيام قليلة.. تلك البطولات الفردية والجماعية التى استمرت حتى أكتوبر ١٩٧٣.
قضينا هذه الفترة فى تدريبات ميدانية مكثفة أكسبتنا خبرة وإرادة وقوة وعزيمة ووطنية صادقة، وحينما بدأت حرب العبور أسرعت بجنودى إلى موقع الإسماعيلية غرب وشرق القناة.
رحنا نثبت صهاريج الوقود فى كلتا المنطقتين، ونمد الأنابيب على القنال بين الغرب والشرق، وكلما أصابها العدو أسرعنا فى إصلاحها تحت مرمى القنابل والرصاص، حتى لا يتوقف إمداد الوقود بأنواعه لقواتنا فى سيناء.
لقد كانت تجربة فريدة فى حياتى، مفيدة لى على المستويات: الشخصى والنفسى والوطنى. لنا أن نتصور عمق الإحساس بالحسرة قبل المعركة، ونحن على الضفة الغربية من القناة، وأمامنا سيناء الحبيبة يعبث على أرضها هذا العدو كما يشاء.. كان لا بد من تحريرها وإعادتها إلى حضن الوطن بالدم والروح، وهذا ما حدث.
كانت هناك عناصر كثيرة حققت النصر فى هذه الحرب، منها عنصر الحسابات الدقيقة فى اختيار اليوم والساعة والمناخ والمد والجزر فى القناة، وعنصر المبادأة أو المفاجأة الذى أذهل العالم، وعنصر الخداع الاستراتيجى والمراوغة والإعلام المساند لذلك، وعنصر العقيدة القتالية التى سرت فى شراييننا بصدق وانتماء.
كان هناك أيضًا عنصر التفكير العلمى واستخدامه فى إزالة الساتر الترابى وسد فتحات «النابالم» فى خط «بارليف»، وعنصر الجندى المصرى المؤهل بامتياز للقتال، وعنصر المجتمع المصرى الذى كان مساندًا لنا فى المعركة.
لم يكن الشعر غائبًا عنى طوال هذه السنوات، التى عشت تجربتها بكل ما أملك من طاقة، فقد حاولت أن أسهم بقصائدى لتكون إلى جانب البندقية، قبل المعركة وفى أثنائها وبعدها.
أما ما قبل العبور، فقد كتبت بثقة أبشر بالنصر على العدو، وأرفض الهزيمة والبكاء، وأحرض على الصمود والمقاومة، مثل قولى:
عز على أن أنام
ولا مفر من توعد ومن صدام
أغمد إذن حكاية الفرار من حديثنا
لكى نلبى هاتف المضيق
ونصحب الصدى على الطريق
نذيق كأس الموت والحريق
ونستعيد فى زماننا النهار
ونجعل النصر على شفاهنا
قصيدة وصيحة وثار
ويومها نحكى معًا حكاية جديدة
حكاية لا تقبل الفرار
كنت واثقًا أننا سنحقق النصر على هذا العدو، الذى تصور أنه لا يُهزم أبدًا، فاكتشفنا فى أثناء المعركة جبنه وضعفه واستسلامه، وهنا أقول:
لا تسألونى عن عدوى الجبان
فقد قصمت ظهره من أول المبارزة
عدوى الجبان يحشو جلده بالقش والدخان
رأيته يلقى السلاح يرفع اليدين
فى هوان
عدوى الجبان حاز فى الجواب
لأنه انطلاقة بلا مسار
وطلقة بلا هدف
وأخيرًا إن هذه الحرب المقدسة لا تبرح ذاكرتى، وهأنذا أضع على مكتبى زجاجة مملوءة برمل سيناء مخضب بدماء الشهداء.