مصر وإرادة النصر.. أكتوبر نموذجًا
يبقى خطاب النصر، الذى ألقاه الرئيس الراحل أنور السادات أمام أعضاء مجلس الشعب فى يوم 16 أكتوبر 1973، نموذجًا فى البلاغة السياسية التى تدّرس لغة وبيانًا وفصاحة وإلقاء، ورغم مرور 51 عامًا على تلك الحرب وإلقاء ذلك البيان، إلا أننا يمكننا من تذكر فقرات كثيرة منه، غير أننى توقفت كثيرًا عند فقرة عبقرية منه يقول فيها بطل الحرب والسلام: «سوف يجىء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة؛ ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء».
وبالفعل صدق توقع البطل الشهيد، فقد كشفت لنا الأيام والأحداث التى شهدتها منطقتنا عن دروس كثيرة لتلك الحرب، ويمكن اليوم تأملها بصورة أوضح بعد مرور أكثر من نصف قرن على انتهاء الحرب. لعل من أبرزها أن السلام العادل قد تفرضه- للأسف الشديد- حرب طاحنة ضروس. وتلك طبيعة الشعب المصرى وديدنه أنه لا يحارب من أجل الحرب، لكننا نحارب من أجل السلام العادل، ففى مفاوضات تطول ومع عدو يجيد المراوغة، لابد أن تكون الأرض التى تقف عليها أرضًا صلبة، وأن يكون مقعدك الذى تجلس عليه على مائدة التفاوض هو مقعد المنتصر.
حضرت لقاءً بالأمس فى نقابة الصحفيين للكاتب الصحفى الكبير عبدالله السناوى حكى فيه كيف كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يجتمع بكبار قادة القوات المسلحة بصورة منتظمة بعد يونيو 1967 لتدارس أمر الرد على ما حدث، وفى إحدى تلك المرات كان ومعه كبار القادة يتابعون فيديوهات تصريحات لكبار قادة العدو، وحينها رد الفريق عبدالمنعم رياض قائلًا: سيادة الرئيس لقد عرفت الآن من أين سننال منهم، إنه الغرور الذى يتملكهم، سوف ننال منهم من ثغرة الغرور، وفى هذا الموقف نقرأ ثانى أسباب التفوق المصرى فى حرب أكتوبر المجيدة، إنه دراسة العدو. أما السبب الأول- فيما أرى- فقد كان استيعاب الدرس القاسى مما وقع فى يونيو 1967.
ليعود المارد المصرى إلى قوته سريعًا من خلال حرب الاستنزاف التى أعادت الثقة للشعب وللمقاتل، ثم ليتحقق النصر المبين فى حرب العبور العظيم. فمن خلال 64 معركة يحقق الجيش المصرى النصر المطلق فى 51، وتسترد قواتنا المسلحة العظيمة أراضى محتلة بامتداد 168 كيلومترًا وبعمق 15 كيلومترًا فى أرض سيناء بما كان عليها من 31 نقطة عسكرية منيعة للعدو. كما يحسب لكبار قادتنا فى ذلك الحين استغلال كل الإمكانات وإعادة تدوير الآلات والمركبات للتغلب على نقص الموارد، فضلاً على حسن التدريب للأفراد، وعبقرية التخطيط للحرب.
وبالطبع، ما كان ليحدث هذا النصر لولا ذلك الظهير الشعبى الكبير المتمثل فى ثبات الجبهة الداخلية ووقوفها خلف القيادة برغم النكسة، بل وإيمان الجميع بأنها مجرد نكسة وستمضى بالصبر والإرادة. وفى هذا ضرب الشعب المصرى العظيم المثل والنموذج الذى تنتهجه كل أمة حرة تتجاوز آلامها لتحقق آمالها. فوحدة الجبهة الداخلية وتوحدها وإرادة النصر التى علت على أى صوت انهزامى مثبط للهمم، فضلًا على ثقة المواطن فى جيشه الوطنى أدى جميعها لالتقاء رغبة الأمة كلها شعبًا وجيشًا عند نقطة واحدة هى الثأر، وإرادة لا تتزعزع هى تحقيق النصر.
وبعد أن استرد الجيش الأرض واستعاد كامل هيبته وثأر لشهداء الوطن تحولت الدولة المصرية إلى المسار السياسى، لكنه جاء تلك المرة من منطلق القوة فارضًا شروط المنتصر وساعيًا لتحقيق سلام شامل وعادل تنعم به شعوب المنطقة كلها؛ ليعيد الحقوق السليبة وعلى رأسها حقوق الشعب الفلسطينى. لكن حدث ما حدث من شق الصف العربى بين مؤيد ومعارض لتلك الخطوة لنرى تداعيات ذلك حتى اليوم، ولنا فيما وقع ويقع حتى اليوم درس وعبرة يفهمها الواعى ويستوعبها القارئ لأحداث التاريخ.
وتبقى سياسة مصر ثابتة رغم مرور أكثر من نصف قرن على ذلك النصر المجيد، دليلًا على أن مصر دولة قوية لديها شعب عظيم، وأكرمها المولى- عز وجل- بأن وهبها سبحانه قيادة واعية متمثلة فى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، فكم مرت على المنطقة كلها أحداث عاصفة خلال السنوات العشر الماضية تمثلت فى قلاقل سياسية وتحديات خارجية وحروب إقليمية وتقلبات فى المواقف الدبلوماسية وضغوط اقتصادية وعوارض صحية، ولكن ثبات القيادة وخبراتها وإيمانها بقوة جبهتنا الداخلية ووعيها بكل تلك التحديات حمى الوطن من أى شر أريد به.