أعمق التحولات الثقافية فى ثورة يوليو
أستكمل الحديث الذى بدأته الأسبوع الماضى بعنوان «نظرة ثقافية على ثورة يوليو»، فهى ثورة لها أبعاد واسعة على الضباب الفكرى والأيديولوجى، الذى خيّم على البلاد حتى مطلع القرن العشرين، فقد كانت أبرز سمات النضال العربى منذ مطلع هذا القرن وأبعدها أثرًا فى مصائره.
ذلك الفراغ الفكرى والأيديولوجى، الذى أضفى على الحركات العربية طابع الارتجال واختلاط الأهداف، وأدى- فى كثير من الأحيان- إلى التضارب والتناقض. ولم يكن هذا الفراغ وليد المصادفة أو نتيجة طابع قومى اتسم به العرب، بل كان النتاج الضرورى للتخلف الاقتصادى والثقافى والاجتماعى بصفه عامة، الذى ورثته هذه المنطقة منذ عهود طويلة جراء سيطرة الاستعمار، وقد شهد المجتمع المصرى، بعد ثورة يوليو، العديد من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها أيضًا الثقافية. ولم تكن هذه التحولات من النوع التلقائى الذى يشق طريقه بعد فترات طويلة من الزمن تاركًا أقل الآثار الجانبية وأقل المشكلات الاجتماعية، لكنها كانت من النوع الآخر، وهو التحولات الناتجة عن تبنى سياسات من قبل الدولة تختلف جذريًا عن السياسات التى كانت تضبط حركة المجتمع من قبل، وفى هذا يرى كثير من المفكرين أن تاريخ ثورة يوليو يمثل نقطة البداية لأعمق التحولات الثقافية والسياسية التى شهدها المجتمع المصرى خلال القرن العشرين حتى الآن. وبالتالى فإن ثورة يوليو تعد امتدادًا لكل التيارات الثقافية المصرية قبلها.
وفى هذا يقول الدكتور أحمد حمروش إن الثورة ما كانت لتقوم لولا الثقافة العربية، والمثقفون المصريون الذين أضاءوا الطريق إلى أفكار الشباب الذين قاموا بالثورة. وأنا لا أميل لقطع التاريخ، حيث يصير لدينا ما قبل يوليو وما بعدها، فمسار تاريخ الشعوب مستمر ومتصل ولا يكترث بمثل هذه الانقطاعات الحادة التى أحيانًا ما نفرضها عليه. فحتى هذه اللحظة ما زلنا جميعًا نعتز ونستفيد بأفكار المثقفين المصريين، بدءًا من رفاعة الطهطاوى إلى الجيل الذى نشأ مع يوليو. ويفضل النظر إلى تلك الثورة الثقافية باعتبارها استمرارًا للثقافة المصرية بكل منجزها المعرفى.
الحقيقة أن الثقافة المصرية بعد يوليو قد انفتحت على الحياة العربية بمختلف نواحيها فإذا بالقضايا العربية الساخنة، وتحديدًا من قضيتى الجزائر وفلسطين تصبحان هما أساسًا فى نواحى الإبداع والثقافة فى مصر فى المؤلفات السياسية والسينما والمسرح والشعر والفن التشكيلى.
وليس من المبالغة أنه لولا انعكاسات التطلعات والطموحات العربية لثورة يوليو ودعمها اللا محدود لثورة الجزائر ما شهدت السينما المصرية آنذاك الفيلم المشهور «جميلة بوحريد» عن إحدى بطلات النضال الجزائرى. ولولا هذه التطلعات وترسيخ فكرة العروبة والارتباط بالمحيط العربى ما قرأنا هذا الكم الكبير والنوعى فى الكتابات والإبداعات المتعددة عن القضية الفلسطينية، وتحديدًا بعد اندلاع المقاومة الفلسطينية المسلحة عام ١٩٦٥.
وهناك إنجازات فى مجرى الثقافة فى مصر بالانفتاح على القضايا العربية وتغلغلها بأبعادها النضالية والإنسانية فى وجدان الكاتب والمبدع المصرى وبالذات القضية الفلسطينية بكل أبعادها الوطنية المختلفة، إضافة إلى إنجازاتها فى الآداب والفنون والمعارف، فلقد تم تأسيس أول وزارة للثقافة فى الشرق الأوسط، وتم تشييد أرفع المؤسسات الفنية. ويسرت الثورة على الجماهير المحرومة تذوق الفنون الرفيعة وشراء الكتب بأرخص الأسعار ومنح الأدباء والفنانين حق التفرغ. وأقامت مصر قطاعًا عامًا فى السينما والنشر وبنت المعاهد الفنية المتخصصة. ومهما قيل عن السلبيات والإخفاقات، فإنه يظل صحيحًا أيضًا وثابتًا أنه يعود الفضل للثورة فى ترسيخ البنية الأساسية للثقافة الوطنية الجديدة. كما أنه يظل صحيحًا وثابتًا أيضًا أنها كانت الحصن المنيع لميلاد أجيال من المبدعين والمتلقين الثقافة الأدبية والفنية.
وخلال عقدين من الزمان بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى تمكنت جماهير الثقافة الوطنية من استئناف النهضة، التى كان الاحتلال البريطانى وحكومات الأقليات قد أسقطتها عديدًا من المرات.
لذلك فإن النهضة التى هيأ لها محمد على، وليست الحملة الفرنسية نقطة البداية فى أعمال رفاعة الطهطاوى، كانت قد سقطت مع حكم عباس حلمى الأول ولم تستيقظ من جديد إلا فى غمار الثورة العرابية فى أعمال محمد عبده وعبدالله النديم ومحمود سامى البارودى حتى أسقطها الاحتلال الإنجليزى، واستيقظت مرة أخرى مع ثورة ١٩١٩ فى أعمال طه حسين والعقاد وسلامة موسى وهيكل والمازنى وأحمد أمين. واستمرت متقطعة فى المد الوفدى واليسارى وحاصرتهما ديكتاتورية الأقليات الدستورية، وأقبلت يوليو لتستأنف النهضة من جديد فى مناخ آخر استدعته الخريطة الاجتماعية الجديدة، وهنا كان نجيب محفوظ ومحمد مندور ولويس عوض، وغيرهم من أعمدة النهضة الجديدة.
قلت إن الحكى عن الدور الثقافى لثورة يوليو ممتد وطويل وهو ما سيتم لاحقًا.
وللحديث بقية.