رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمريكان.. بين وزير كاذب وكاتب محايد!

السياسة هوس عصرى تحتاج بعد الخوض فيها، لتشخيص بمرض عقلى وتناول عقاقير مضادة للانفصام.. إياك أن تشمت بسياسى أو تنظر إليه بنظرة غير لائقة، وابتعد عن الضحك لما يقال منهم، وتجاوز عنهم واعفُ واصفح، فذلك خير لك فـ«لا تشمت بأخيك؛ فيشفيه الله ويبتليك».. إن أتتك فرصة لتكون سياسيًا عريقًا، فابتعد أرجوك، تعوّذ وصلّ واستخر، ثم إن وفقت اسعَ لتكن سياسيًا ناجحًا وارقَ بها وتعالَ عن زيفها، وانتقد سلبياتها وعزز إيجابياتها وتلطّف بنفسك، فالسياسة لا تبقى أحدًا على نفسه.
لم يتورع وزير الخارجية الأمريكى، اليهودى الأصل والمؤيد لإسرائيل، أنتونى بلينكن، عن تضليل مجلس النواب الأمريكى، من خلال حجب معلومات أساسية عن حصار غزة.. إذ ذكرت تقارير أن كبير الدبلوماسيين الأمريكيين قدم معلومات خاطئة إلى المشرعين فى الكونجرس، بشأن عرقلة تل أبيب للمساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث يواجه ما لا يقل عن مليونى فلسطينى قصفًا إسرائيليًا لا هوادة فيه.. وخلال جلسة استماع فى شهر مايو الماضى، أكد أنتونى بلينكن أن إسرائيل «لا تحظر أو تقيد بأى شكل، نقل أو تسليم المساعدات الإنسانية» للفلسطينيين!!.. على الرغم من حقيقة أن الوكالتين الأمريكيتين الرئيسيتين، الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومكتب اللاجئين التابع لوزارة الخارجية، أبلغتا فى وقت سابق وزير الخارجية وكبار الدبلوماسيين بالحصار الإسرائيلى المتعمد للمساعدات إلى الأراضى الفلسطينية.. وذكرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فى مذكرة لها، أن «الإنكار التعسفى والتقييد والعقبات التى فرضتها إسرائيل على المساعدات الإنسانية» خلقت الظروف الملائمة «لواحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية فى العالم».
ويحظر القانون الأمريكى على واشنطن تسليم الأسلحة لأى دولة، بما فى ذلك إسرائيل، التى منعت مرارًا وتكرارًا، نقل المساعدات الإنسانية التى تدعمها الولايات المتحدة.. ومع ذلك، تظل الولايات المتحدة أكبر مورد للأسلحة لإسرائيل، على الرغم من انتهاك تل أبيب الصارخ للقانون الأمريكى والدولى.. وبعد تسريب مذكرات منفصلة من الوكالتين إلى الصحافة، أظهرت إخفاء بلينكن لجرائم الحرب الإسرائيلية، دعا البعض إلى استقالته بسبب انتهاكه للقانون الأمريكى والقانون الإنسانى، «لقد كذب أنتونى بلينكن على الكونجرس، رغم علمه بأن إسرائيل تتعمد تجويع غزة.. وكل ذلك من أجل الاستمرار فى تسليح الإبادة الجماعية.. نطالب باستقالة بلينكن، وبتوقف جو بايدن وكامالا هاريس عن تسليح إسرائيل بشكل غير قانونى الآن!»، هكذا كتبت جيل شتاين، وهى يهودية أمريكية، ومرشحة الحزب الأخضر للرئاسة فى الانتخابات الأمريكية المقبلة، على موقع X.. يقرأ أنتونى بلينكن التقارير التى تأتيه من مرءوسيه، لكنه لا يقدم تقاريره إلى المؤسسات السياسية، مثل الكونجرس الأمريكى.. وطالبت منظمة «كير» الوطنية، أكبر منظمة لحقوق الإنسان الإسلامية فى الولايات المتحدة، باستقالة بلينكن، وأعلنت على موقعها الإلكترونى: «يستحق الشعب الأمريكى قادة يقولون الحقيقة، لقد حان الوقت لمحاسبة إدارة بايدن على تواطئها المستمر فى الإبادة الجماعية الإسرائيلية فى غزة».. ومن المثير للاهتمام أن بلينكن يواجه دعوات بالاستقالة، ليس فقط من الجماعات الأمريكية المؤيدة للفلسطينيين، ولكن أيضًا من الجمهوريين، حلفاء إسرائيل منذ فترة طويلة، الذين يتهمون الدبلوماسى الأعلى بسوء إدارة الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، إذ اقترح الجمهوريون، فى وقت سابق، عزل بلينكن بتهمة ارتكاب جرائم وجنح خطيرة.
إخفاء بلينكن للحقائق على الأرض فى غزة، ودفاعه غير المشروط عن إسرائيل، ليس بالأمر الجديد، ففى الشهر الماضى، أنقذ بلينكن كتيبة «نيتسح يهودا» سيئة السمعة فى الجيش الإسرائيلى، والتى تهيمن عليها حركة شباب التلال، وهى حركة استيطانية يمينية متطرفة، من عقوبات أمريكية محتملة، بعد أن أوصت لجنة تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية بفرض عقوبات على الكتيبة، التى لديها تاريخ من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين فى المناطق المحتلة، بعد تحقيق طويل ضد أنشطتها.. لكن بلينكن، بعد إجراء عدة محادثات مع مسئولين إسرائيليين، قرر عدم فرض عقوبات على الوحدة العسكرية، قائلًا إن تل أبيب قامت بإصلاح الكتيبة، ومع ذلك، أظهر تحقيق موسع أجرته شبكة CNN، أن القادة السابقين للكتيبة لم يتلقوا عقوبات بل ترقيات، فى مقابل انتهاكاتهم الموثقة للحقوق، حيث تمت ترقية ماتى شيفاح، القائد السابق للواء «نيتسح يهودا» سيئ السمعة، إلى منصب نائب قائد أكبر لواء مشاة فى الجيش الإسرائيلى.
منذ السابع من أكتوبر، زار بلينكن إسرائيل عدة مرات، للتوسط فيما يسمى باتفاق الرهائن ووقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس.. وحتى الآن، فشل فى الوفاء بوعده بوقف الهجمات الإسرائيلية على غزة.. فى منتصف أغسطس، عاد إلى إسرائيل حاملًا وعدًا بعيد المنال، بالتوصل إلى اتفاق، وفى حين لم تكن هناك أى إشارة حقيقية إلى استعداد حكومة بنيامين نتنياهو لقبول اتفاق وقف إطلاق النار، قال بلينكن إن إسرائيل «وافقت» على الاتفاق، وهو ما ثبت مرة أخرى أنه ادعاء كاذب.. وفى الأسبوع الماضى، عندما اعترف كبار المسئولين الأمريكيين بأن اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة «بعيد المنال» بالنسبة لإدارة بايدن، تساءل كثيرون عما إذا كان بلينكن يكسب الوقت لإسرائيل، ويساعدها على مواصلة هجماتها البربرية على الفلسطينيين.
ولا ننسى لهذا الرجل بلينكن أنه ذهب إلى القدس مباشرة بعد هجمات السابع من أكتوبر، حيث وقف جنبًا إلى جنب مع نتنياهو، الذى قد تصدر المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحقه قريبًا، لارتكابه جرائم حرب ضد الفلسطينيين.. وفى تصريحاته المثيرة للجدل، قال بلينكن إنه كان فى إسرائيل «ليس فقط بصفته وزير خارجية الولايات المتحدة، ولكن أيضًا كيهودى»، ووعد بتقديم الدعم الكامل لنتنياهو فى حربه ضد غزة، والتى يرى كثيرون أنها تحمل نية «الإبادة الجماعية».
لكن، هل يُعد بلينكن نموذجًا شائعًا فى السياسة الأمريكية ووسائل إعلام واشنطن، أم كان هناك من انتصر للأخلاق والمبادئ الإنسانية، ونأى بنفسه عن التدليس، والتزم قول الحق؟
الحقيقة هناك من يمكن الإشارة إليه بأنه وقف ضد البربرية الإسرائيلية، وضد المساندة الأمريكية لإسرائيل بلا حدود، التى ترقى لمرتبة المشاركة الفعلية فيما يقع فى غزة ولبنان، من مجازر إنسانية.. وهناك من قرأ الأحداث، دون انحياز إلى حماس وحزب الله، أو ميل باتجاه إسرائيل، ودفعه الواقع إلى قول كلمته المجردة، فى صالح أو ضد هذا الطرف أو ذاك.
ربما بدا امتداد حرب غزة إلى لبنان هذا الشهر أمرًا لا مفر منه، لكنه لم يكن كذلك.. كانت هذه حربًا يأمل الجانبان فى تجنبها، وتحاول إدارة الرئيس الأمريكى، جو بايدن، التى تعرف تكلفتها الرهيبة، إيجاد مخرج لها على مدى أحد عشر شهرًا، لكن المنطق القاسى للحرب أثبت أنه أقوى من منطق السلام الناعم.. حزب الله لن يتوقف عن إطلاق الصواريخ باتجاه شمال الأرض المحتلة، وإسرائيل لن تتوقف عن الرد.. صعد الجانبان السُّلَّم، ولم تستطع الولايات المتحدة إيقافهما.
«لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل».. كثيرًا ما يقول الناس ذلك عن الحروب فى الشرق الأوسط، لكن هذا ليس صحيحًا، فكل حرب هى كارثة فريدة من نوعها، مع مزيج خاص بها من الأسباب والآثار المروعة، وكل طفل برىء يموت، خلال هذه الحروب، هو روح بشرية لا يمكن تعويضها أبدًا.. هكذا بدأ الكاتب والروائى الأمريكى، ديفيد إجناتيوس، كلامه فى صحيفة «واشنطن بوست»، وقال: كنت أغطى أحداث الشرق الأوسط كصحفى منذ ما يقرب من خمسة وأربعين عامًا، وأصبحت أكره هذه الحروب والمعاناة الهائلة التى تجلبها لكل من الإسرائيليين والعرب.. إنها مثل مشاهدة الناس محاصرين مع اقتراب إعصار عنيف.. فى كل مرة، تأمل فى أن يتمكنوا من الهروب، ويمكنهم تجنب الكارثة، لكن فى كثير من الأحيان، لا يمكنهم ذلك.
يشعر الكثير من الناس بالتزام أخلاقى، لاختيار أحد الجانبين فى هذه الحروب.. وأنا صحفى، وجزء من وظيفتى أن أتحدث إلى الجميع، إذا استطعت، لكن هذا لا يعنى أنه ليست لدىّ آراء.. أعتقد أن حُكم حماس كان مأساة للفلسطينيين فى غزة، وتهديدًا لا يطاق لإسرائيل، كما أعتقد أن حزب الله اختطف لبنان، وأيديهم ملطخة بدماء مئات الأمريكيين هناك.. لكننى رأيت إسرائيل ترتكب الأخطاء المتكررة أيضًا.. من المؤلم أن تشاهد ذلك، إذا كنت مثلى.. ما أشاهده الآن فى لبنان يشبه بشكل مؤلم ما رأيته عام 1982، كمراسل شاب فى بيروت، يغطى الغزو الإسرائيلى.. فى ذلك العام، كانت المشكلة آنذاك كما هى الآن، هى المبالغة، إذ أرادت إسرائيل أن تذهب إلى الجذر، وأن تسحق خصمها الرئيسى فى ذلك الوقت، منظمة التحرير الفلسطينية، لا مزيد من التدابير فى منتصف الطريق، استخدم كل سلاح فى الترسانة.. كان لإسرائيل هيمنة عسكرية واستخباراتية قوية فى ذلك الوقت، تمامًا كما تفعل الآن.. وصلت قواتها إلى ضواحى بيروت فى أيام، ولكن ماذا بعد؟.. لقد أخفت القوة الساحقة لإسرائيل نقطة ضعفها الاستراتيجية.. لم تكن لدى قادتها إجابة جيدة على السؤال: «أخبرنى كيف ينتهى هذا؟».. استمر حصار بيروت، حتى تفاوض وسيط أمريكى على خروج زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ومقاتليه.. لقد علقت إسرائيل فيما تبين أنه مستنقع.
كان من حسن حظى فى ذلك الوقت، أن أتمكن من التحدث مع القادة الإسرائيليين، مثل رئيس الوزراء، مناحيم بيجين، وكذلك مع المسئولين الفلسطينيين.. آخر مرة زرت فيها بيجين كانت فى أغسطس 1983، بعد أن توترت الحرب فى لبنان، متأملًا الخسائر فى لبنان والصدمة التى جلبتها الحرب لشعبه.. «الحقيقة أنه حزين»، أوضح يحيئيل كاديشاى، السكرتير الشخصى لبيجين، وزميله منذ أيام عمل منظمة «الإريجون» تحت الأرض.. «إنه شخص لا يستطيع إظهار وجه ضاحك، عندما يكون هناك حزن فى قلبه»، وأوضح مساعدوه أن بيجين طلب إطلاعه كل يوم على أحدث أرقام الضحايا وعائلات كل جندى إسرائيلى قُتِل.. كان يعتز بإسرائيل، لكن الأصدقاء أخبرونى أنه فى اكتئابه، يخشى أن يكون قد تركها أضعف.
إن آفة حزب الله لها معنى خاص بالنسبة لى أيضًا.. زرت السفارة الأمريكية فى بيروت فى الثامن عشر من أبريل 1983، وغادرت قبل حوالى نصف ساعة من قيام سيارة مفخخة بتدمير المبنى.. فى معظم السنوات منذ ذلك الحين، كنت أتبادل الرسائل مع مسئولة السفارة، التى رافقتنى إلى المصعد فى ذلك اليوم.. لقد راسلتنى عبر البريد الإلكترونى الأسبوع الماضى، بعد أن قتلت غارة جوية إسرائيلية إبراهيم عقيل، مسئول الصواريخ فى حزب الله، وأحد الذين خططوا لتفجير السفارة فى ذلك اليوم.. يكفى القول إنها لم تحزن على فقدان عقيل.
الحقيقة البشعة هى أن وجود حزب الله فى حد ذاته، كان نتيجة للغزو الإسرائيلى عام 1982، ومن خلال طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، أزالت إسرائيل الحاجز الرئيسى ضد قوة الميليشيات الشيعية.. بدأت كوادر ما أصبح حزب الله فى التجمع على الفور تقريبًا، بدعم سرى من إيران.. وعلى مدى السنوات الأربعين التالية، أجبر حزب الله الأمة اللبنانية على الخضوع لقوته.. كان حسن نصر الله، زعيم حزب الله، إحدى الشخصيات غير المتوقعة التى قابلتها على مدى عقود، لم يكن الشرير النمطى فى الإجابة على أسئلتى، كان ذكيًا وذكيًا وأحيانًا يضايقك.. بدا مفتونًا بفكرة التحدث مع أمريكى، كما لو كانت بدعة.. لكن أكثر ما أتذكره هو الفحص الأمنى المكثف قبل المقابلة.. قام حراسه الشخصيون بتفكيك أقلامى ودفاترى ومحتويات محفظتى، بحثًا عن قنبلة مخبأة أو جهاز مراقبة.. الحمد لله، كان هذا فى الأيام التى سبقت تفجير أجهزة الاستدعاء، حيث التقيت فيها بنصر الله، فى الضاحية الجنوبية لبيروت، التى تعرضت للقصف بغارات جوية إسرائيلية الأسبوع الماضى.
من المفترض أن توفر الذاكرة الوضوح، ولكن يمكن أن تكون أيضًا ضبابًا.. تعتقد أنك تعرف إلى أين أنت ذاهب؟، ولكن عندما تضرب الأحداث المفاجئة، فإنها تطمس الماضى وكل ما تراه هو الحاضر، والحاجة إلى التصرف.. وبعد ذلك، أنت فى مكان لم تكن تنوى أن تكون فيه.. أتمنى لو كانت لدىّ إجابات على الأسئلة التى تطاردنا جميعًا، ونحن نشاهد الشرق الأوسط تمزقه حرب آخذة فى الاتساع.. الأشياء الوحيدة التى تبدو واضحة بالنسبة لى، هى أن «النصر الكامل» وهم فى هذا الصراع، وأن الأمن ضرورى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.