قراءة فى تاريخ فلسطين: شريعة القتل وفقه الإبادة «٥»
ذكرنا فى المقال السابق أن عزرا الكاتب بعد أن قام بطرد النساء الأجنبيات اللائى تزوجن من يهود، واطمأن إلى خلو الأرض من الشعوب «الرجسة»، على حد قول التوراة، بدأ فى كتابة أسفار التوراة، ووضع أسس الشريعة التى لا تزال تحكم الفكر اليهودى حتى الآن. ولك أن تتخيل صديقى القارئ قدر الانحراف المحتمل حين تقوم مجموعة من الناس بوضع كتاب يسجل تعاليم ظلت قرابة الألف عام، تنتقل شفهيًا وتمتزج فيها التعاليم الدينية بالأهواء الشخصية، والأساطير الشعبية، وطبيعة المنتج المحتمل من هذا المزيج.
وقد قسم علماء اللاهوت مصادر التوراة التى اعتمد عليها عزرا فى كتابة العهد القديم، إلى ثلاثة مصادر، الأول، ويسمى «المصدر اليهودى»، وهو أقدم المصادر، ويعتمد بالأساس على الأساطير الشعبية للشعوب التى عاش بينها العبرانيون، ومنها قصص الخلق والطوفان وغيرهما. والمصدر الثانى، ويسمى «المصدر الإلوهيمى» وهو يعتمد على التعاليم الأخلاقية والعبادات، التى توارثها بنو إسرائيل تواترًا، ويركز هذا المصدر على إبراز قضية التوحيد والشرائع المتعلقة بالصلاة والصوم والقرابين والكفارات، وغيرها. أما المصدر الأخطر والأخير فهو «المصدر الكهنوتى»، وهو يعتمد اعتمادًا كليًا على أفكار حاخامات فترة السبى، على رأسهم عزرا الكاتب، ويهتم هذا القسم بتأريخ تاريخ الأمة اليهودية، ويركز على رواية القصص البطولية للآباء الأوائل المؤسسين، ويؤكد أفكارًا مثل قدسية الأرض، ونقاء العنصر اليهودى أمام باقى الشعوب.
والعجيب أن هذا التاريخ المشكوك فيه، ظل هو المصدر الأساسى والمعتمد لتاريخ اليهود قرابة ألفى عام، بل تم الترويج له، والاستدلال به من الحركات الصهيونية فى العالم المسيحى بأوروبا، لإثبات الأحقية التاريخية لليهود فى الأرض، رغم ما به من انحرافات أكد عليها العلماء والمفكرون.
وذكر نيتشه «أن التوراة تحتوى على مادة تاريخية مشكوك فى صحتها، فقد شوهت لأغراض معينة، وتأثرت بالخيال الشعرى، بحيث لا يمكن اعتبار ما فيها من جملة الحقائق التاريخية». أما العالم التوراتى الألمانى «يوليوس فيلهاوزن»، فقد قال صراحة «إنه يجب النظر إلى القصص التوراتية كأساطير وطنية، لا تزيد فى صحتها التاريخية عن الصحة التاريخية لملحمة «أوديسيوس» لهوميروس، أو ملحمة «إينياس» لفرجيل.
وقد تلعب الأساطير الوطنية دورًا فى تعزيز الشعور الوطنى والإحساس بالانتماء، ولكن تكمن خطورة الأساطير التوراتية فى أنها عقيدة يتطلب الإيمان بها التصديق بالقول والعمل، ويترتب على العمل بها مذابح يمنح بها القاتل صكًا يعفيه من أى مسئولية دينية أو دنيوية.
فقد أسرف كتبة التوراة فى تمجيد عنف الآباء المؤسسين، مثل موسى ويوشع وداود وسليمان مع أعدائهم، فزعموا أن الرب أمر موسى أن يبيد أهل مديان فلا يُبقى منهم حيًا، وأن يسلب أملاكهم ويحرق مساكنهم، فذكروا فى سفر العدد «وَسَبَى بَنُوإِسْرَائِيلَ نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ، وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُلَّ أَمْل كِهِمْ. وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ».
وحين عاد الجنود من المعركة بالنساء والأطفال الأسرى سخط موسى وأمرهم بقتل الأطفال الذكور والنساء اللائى أنجبنهن، فقال «فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلًا بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا». «سفر العدد ٣١».
ولا يوجد سِفر فى التاريخ يمجد الإبادة الجماعية والقتل مقابل الاستيطان مثلما فعل سفر «يوشع» المقدس الذى يحكى دخول بنى إسرائيل إلى أريحا والمدن الفلسطينية، بعد عبورهم نهر الأردن، التى وصفها سبينوزا بأنها «أكبر عملية إبادة مقدسة فى التاريخ»، وقال عنها ديورانت «ولسنا نعرف فى تاريخ الحروب مثل هذا الإسراف فى القتل والاستمتاع به». فقد ذكر السفر أن يشوع بن نون قد حاصر مدينة عاى، وبعد أن استسلم ملكها قتله يوشع شر قتلة، ثم أتى على المدينة وقتل اثنى عشر ألفًا من الرجال والنساء، وأحرق المدينة بأكملها. وهذا نص الإصحاح الثامن من سفر يشوع: «وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاى فى الحقل فى البرية، حيث لحقوهم وسقطوا جميعًا بحد السيف حتى فنوا، فكان جميع الذين سقطوا فى ذلك اليوم من رجال ونساء اثنى عشر ألفًا، من جميع أهل عاى. وأحرق يشوع عاى وجعلها تلًا أبديًا خرابًا إلى هذا اليوم».
ومن بين صور الإبادة الجماعية التى ذكرتها التوراة، مثل القتل والحرق والسلب والنهب، يظل قتل النساء، والأطفال هو الصورة الأكثر تفردًا، ولا يوجد لها مثيل فى أى عقيدة أخرى. وقد تكرر الأمر الإلهى لهم، بزعمهم، بقتل النساء والأطفال فى أغلب الحروب التى خاضوها من أجل الاستيطان. فعلى سبيل المثال، صدر الأمر بقتل النساء والأطفال عند دخول جلعاد «اذْهَبُوا وَاضْرِبُوا سُكَّانَ يَابِيشِ جِلْعَادَ بِحَد السَّيْفِ مَعَ النسَاءِ وَالأَطْفَالِ» القضاة ٢١: ١٠، وتكرر الأمر لشاول- أو طالوت- بقتل كل من يقابله عند دخول غزة، ولم يكتف بقتل الرجال والنساء والأطفال والحيوان، وإنما نص الأمر كذلك على ضرورة قتل الأطفال «الرضع»، فقال «فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرمُوا كُلَّ مَا لَه وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ، بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَة، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا»، «صموئيل الأول ١٥: ١ - ٣». وأعيد التأكيد عليه بقتل «الرُضَّع» حينما توجه إلى مدينة «نوب» فقيل له: «واَضَرَب نُوبَ مَدِينَةَ الْكَهَنَةِ بِحَد السَّيْفِ. الرجَالَ وَالنسَاءَ وَالأَطْفَالَ وَالرضْعَانَ»، «صموئيل ٢٢».
ومن الأشياء البشعة التى تقشعر منها الأبدان، الأوامر بتحطيم الأطفال بالحجارة، وشق بطون الحوامل، ونشر الأسرى بالمناشير ونوارج الحديد، وهى أشياء يضيق المقام بذكرها، ولكن يمكن للقارئ العودة إلى أسفار أخبار الأيام الأول وسفر يشوع إذا كان قلبه يحتمل الاستزادة!
وبعيدًا عن أن هذه الآيات محرفة، وأنها لا يمكن أن تكون أمرًا إلهيًا، وإنما من وضع عزرا ورفاقه، يظل الإيمان والعمل بها قائمًا حتى الآن. ولا أقصد هنا ممارسات القادة العسكريين فى الأرض المحتلة، وإنما إيمان الأجيال الجديدة من تلاميذ المدارس الإسرائيلية بهذه الممارسات. ففى استفتاء قام به عالم الاجتماع الإسرائيلى تامارين فى عدد من مدارس تل أبيب والمدن والمستعمرات الإسرائيلية، عام ١٩٨٨ حول الأساليب الهمجية التى انتهجها يشوع، مع أهل أريحا، كانت النتيجة أن نحو ٦٦-٩٥٪ من طلبة المدارس المشمولين بالبحث، أيَّدوا ذلك الأسلوب، وأن ٣٠٪ منهم أيدوا بصورة قطعية إبادة السكان العرب تمامًا فى المناطق المحتلة. ومن الأجوبة التى تلقاها: «لقد تصرف يشوع بن نون تصرفًا حسنًا بقتله جميع الناس فى أريحا، ذلك لأنه كان من الضرورى احتلال البلاد كلها، ولم يكن لديه وقت لإضاعته مع الأسرى».
ولا شك أن بعضًا من هؤلاء الطلبة الذين أجروا الاستفتاء فى عام ١٩٨٨، قد صاروا فى مواقع قيادية الآن، ويمارسون ما آمنوا به من أفكار على أرض الواقع.
وللحديث بقية..