هوس نتنياهو بالبقاء فى فيلادلفيا
توارت أخبار العمليات العسكرية الإسرائيلية فى غزة قليلًا، خلف السيل الضخم من الأنباء عن القصف اليومى المُتبادل بين حزب الله وقوات جيش الاحتلال، واحتمالات قيامه بعملية برية فى الجنوب اللبنانى، رغبة منه فى دفع قوات حزب الله، إلى شمال نهر الليطانى، فى مسعى منه، لإمكانية عودة سكان شمال إسرائيل إلى ديارهم، بعد شهور طويلة من الإخلاء وتوقف الحياة هناك.. ومع ذلك، تعتبر الأحداث فى غزة، هى قاطرة ما يتم فى جنوب لبنان، باعتبار عمليات حزب الله، هى «إسناد» للمقاومة فى غزة، وبالوصول إلى اتفاق إطلاق نار بين حماس وإسرائيل، فإن ذلك، ربما، كان سببًا فى توقف الصراع بين حزب الله وإسرائيل، فورًا.
وكما هو معروف عن رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو.. يلجأ إلى سياسة الهروب إلى الأمام، انتظارًا لمعرفة هوية سيد البيت الأبيض الجديد، مع أن الوقت بدأ يضيق، مع اقتراب الذكرى الأولى ليوم السابع من أكتوبر.. غير عابئ بأنه أطلق على «نفسه رصاصة ذاتية»، بوجوده فى مستنقع غزة، لأن هذه الحرب «لن تنتهى بطريقة رومانسية.. فإما أن تربح إسرائيل أو يربح نتنياهو، لأن كلا الجانبين لا يلتقيان».. يتمسك نتنياهو بمحور فيلادلفيا، كمسمار جحا، ليرتكز عليه لسببين، الأول، يتعلق باستراتيجية الهروب حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، والثانى، يكمن فى اعتبار نتنياهو وائتلافه اليمينى الحرب الحالية حربًا وجودية.. ووفق الصورة الحالية، يصر نتنياهو فى كل مناسبة، على موقفه الرافض تمامًا للانسحاب من ممر فيلادلفيا، مستندًا على غياب أى بديل له فى المشهد السياسى الإسرائيلى.
وفى مؤتمريه الأخيرين، بدا لسان حال نتنياهو يقول للشارع الإسرائيلى «من أنتم؟»، وليس «فهمتكم»، وبدا تكرار الحديث حول فيلادلفيا، كاشفًا عن مشكلة داخلية بين نتنياهو والأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، بعد أن بدأت مؤسسة الجيش تسترد عافيتها، باستعادة الثقة مع المجتمع الإسرائيلى، خصوصًا مع انسحاب عضوى مجلس الحرب، بينى جانتس وجادى آيزنكوت، وهو ما لا يريده نتنياهو.. كما حاول رئيس الوزراء الإسرائيلى مخاطبة المجتمع الدولى، بالزعم أن إسرائيل أعطت الفلسطينيين دولة مستقلة فشلت فى قطاع غزة وهددت الأمن القومى لتل أبيب، كما فشل الفلسطينيون فى الضفة الغربية، رغم منحهم إدارة مدنية ذاتية!!
ومع أن مقتل الأسرى الإسرائيليين الستة، حرك المياه الراكدة فى المشهد الحالى، فإنه لم يكن فى صالح المقاومة، خصوصًا مع عمليات جيش الاحتلال و«ذبح الضفة الغربية».. إلا أن الوضع الحالى بات مفيدًا للمقاومة ومضرًا لنتنياهو، بعد أن انقلب السحر على الساحر، مع تعرض جيش الاحتلال لاستنزاف فى محور نتساريم ونقاط مختلفة فى قطاع غزة، وتمسك نتنياهو بالبقاء فى القطاع، فى سياق رغبته فى الاستمرار بالحكم لأطول فترة ممكنة، واستبدال جميع النخب فى إسرائيل، إلى جانب احتلال غزة والضفة.. ومهما أصر نتنياهو على التشنج فى الوقت الحالى، فإن الجبهة الداخلية المضادة له تتعزز، كما يتزعزع موقف الاحتلال وعدم قدرته على تحقيق «النصر المطلق».. فالمقاومة لا تزال قوية، ولا فرصة أمام جيش الاحتلال سوى الانسحاب والقبول بتسوية، أو البقاء فى غزة والتعرض لاستنزاف تام، ويظل المقترح الأمريكى الجديد، الذى يجرى الحديث عنه، مشكلة للمقاومة ويقضم من مكاسبها، لكنها تتحلى بالصبر، بعدما دفعت فاتورة الدم، ووصول الحرب الإسرائيلية إلى منطق اللا جدوى.
وهنا، يرى نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكى السابق للشرق الأوسط، مايكل مولروى، أن نتنياهو يحاول الحفاظ على منصبه، ولا يود وقفًا لإطلاق النار، ويعارض حل الدولتين، فى حين يبدو موقف الولايات المتحدة مغايرًا لتوجهات نتنياهو، ليس من الديمقراطيين فحسب، بل من الرئيس الجمهورى السابق، دونالد ترامب.. «موقف واشنطن ضد احتلال قطاع غزة»، «مزاعم نتنياهو عن حشد الشرعية الدولية لذلك غير صحيحة»، مؤكدًا أن الرئيس جو بايدن لا يتعامل مع نتنياهو مباشرة، بل مع الفريق الإسرائيلى، فى وقت لا يتحدث رئيس الموساد بالنيابة عن نتنياهو، ليتساءل قائلًا، «ما الغرض من مفاوضات مع شخص لا يتشارك نفس الموقف مع الشخص الذى يتخذ القرار؟».. هذا يؤثر سلبًا على التوصل لأى اتفاق.
ويعتقد رئيس تحرير صحيفة «جيروزاليم بوست» السابق، ديفيد برين، على خلفية القرار الذى اتخذته الحكومة الإسرائيلية، بالحفاظ على وجود دائم لجيش الاحتلال على طول ممر فيلادلفيا، رغم اعتراضات وزير الدفاع يوآف جالانت، «أنه مهما يكن من أمر الرهائن ومحور فيلادلفيا، فإن إسرائيل حتما ستخسر فى الحالتين».. فعائلات الأسرى الإسرائيليين منقسمة على نفسها، حول ما يعنيه القبول باتفاق لوقف إطلاق النار لأقاربها، إذ من الواضح أن بعضهم سيبقى أسيرًا فى قطاع غزة، حتى بعد انسحاب إسرائيل بالكامل، ولن تتخلى حركة حماس عنهم جميعًا طواعية.. العديد من العائلات تعارض أى صفقة من هذا القبيل، تُبقى الرهائن فى الأسر، واستنادًا إلى الاحتجاجات الجماهيرية والإضراب العام، الذى اندلع فى أعقاب مقتل ستة أسرى، فقد يظن المرء أن 90% من الجمهور يؤيدون قبول أى صفقة من شأنها إعادة الأسرى إلى ديارهم، لكن الواقع هو أن البلاد منقسمة بشأن هذه القضية، على أساس الانتماءات السياسية والأيديولوجية.. ووفقًا لمقال برين، فإن أحد خيارات إسرائيل هو البقاء فى غزة، ومواصلة قصف حركة حماس، على أمل أن تستسلم فى النهاية لشروط تل أبيب، وأن يُعثر على مزيد من الأسرى أحياء وإنقاذهم.. والخيار الآخر ـ فى رأيه ـ يكمن فى الاعتراف بأن العملية العسكرية حققت ما استطاعت تحقيقه، وعلى إسرائيل تقليص خسائرها، وجعل تحرير أكبر عدد ممكن من الأسرى يحظى بالأولوية على المخاوف الأمنية قصيرة الأجل.
وفى مقال آخر بالصحيفة نفسها، يرى كبير مراسلى ومحللى «جيروزاليم بوست»، سيث فرانتزمان، أن محور فيلادلفيا لطالما كان ممرًا حيويًا لحركة حماس، وهى تريد استعادة السيطرة على معبر رفح الحدودى، الذى كان معبرًا بريًا لدخول الناس والبضائع إلى غزة.. وادعى، أنه من خلال هذه الحدود، تتحكم حماس فى قطاع غزة، بجعل السكان المدنيين يعتمدون عليها، لكن التحدى الذى يواجه إسرائيل الآن، بعد أن قررت قيادتها السياسية أن ممر فيلادلفيا ضرورى لأمنها، هو معرفة كيفية تأمينه تمامًا.. إلا أن ما يثير القلق أكثر- بحسب الكاتب- هو أن إسرائيل أرسلت قوات إلى الممر من قبل، أثناء الانتفاضة الثانية، وقد تعلمت حماس أن الهجمات اليومية الصغيرة يمكن أن تثقل كاهل إسرائيل بحرب استنزاف.. وقد درجت إسرائيل على تغيير أهدافها منذ اندلاع الحرب، إذ ادعت القيادة السياسية فى بادئ الأمر، أن حركة حماس لن يكون لها وجود فى غزة، لكن سرعان ما أصبح واضحًا أن الجيش الإسرائيلى لن يستبدل كيانًا آخر بحماس، التى تجيد الترقب والانتظار، وقيادتها العليا، ممثلة فى يحيى السنوار، تعرف كيف تختار الوقت والمكان المناسبين، للهجوم على أهدافها.. هذه التحديات، ينبغى على إسرائيل الاعتراف بها.
■■ وبعد..
لقد كشفت صحيفة «هآرتس» العبرية، نقلًا عن مصدر داخل الائتلاف الحاكم، أن نتنياهو كان معارضًا لصفقة تبادل الأسرى منذ البداية، واكتشف أن «محور فيلادلفيا خدعة فعالة»، تعطل إتمام الصفقة التى يرى أنها تهديدًا لموقفه السياسى الداخلى، إذ يفضل إبقاء الوضع الحالى على ما هو عليه، بدلًا من التوصل إلى حل يضعف موقفه السياسى أمام المعارضة المتزايدة من داخل حكومته وخارجها.. وأثارت تصريحات نتنياهو الأخيرة عن البقاء فى محور فيلادلفيا، واستعراضه خريطة تضم الضفة الغربية ضمن حدود إسرائيل، موجة من الغضب داخل إسرائيل وخارجها.. وأصر على أن القوات الإسرائيلية يجب أن تحتفظ بالسيطرة على محور فيلادلفيا، معتبرًا أن هذا الممر الاستراتيجى، هو المفتاح لمنع تهريب الأسرى إلى خارج غزة، وأن «الانسحاب من هذا المحور، ولو مؤقتًا، سيعنى فقدان السيطرة عليه إلى الأبدى».. هذه التصريحات أثارت حفيظة العديد من الأطراف، ومنهم زعيم المعارضة يائير لبيد، الذى هاجم نتنياهو، بأن «إسرائيل انسحبت من محور فيلادلفيا قبل تسعة عشر عامًا، وصوّت نتنياهو لصالح هذا القرار، والآن يدّعى أن البقاء هناك هو الحل لإنهاء الحرب».
وإذا كان ناشطون غربيون وعرب قد رأوا فى الخريطة ما يشير إلى نية إسرائيل الواضحة فى ضم الضفة الغربية بالكامل، وهو ما يتعارض مع الاتفاقيات الدولية كافة.. إلا أنهم رأوا أيضًا أن تصريحات نتنياهو، تعكس أزمة داخلية عميقة يعانى منها رئيس الوزراء، إذ يحاول توجيه الأنظار بعيدًا عن فشله فى تحقيق أهداف الحرب، بإثارة قضايا حدودية واستراتيجية قديمة.. ومع وضع نتنياهو نفسه فى الزاوية مرة أخرى، يعتقد المحللون، أن خطوته التالية ستكون حاسمة، أو كما قال الباحث إيليا أيوب، «من العدل أن نفترض أن نتنياهو سيفعل الشىء الوحيد، الذى فعله على الإطلاق: التمسك بموقفه».. ولا نعرف، ما إذا كان الضغط الداخلى سيكون كافيًا، لأنه يعتبر نفسه بالفعل رجلًا ميتًا سياسيًا إذا خسر.. ولديه كل شىء ليخسره إذا استسلم!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.