نظرة ثقافية على ثورة يوليو
خلال قراءتى مؤخرًا حول أسباب ازدهار الفكر والأدب والثقافة مع «ثورة يوليو ١٩٥٢»، كان لا بد من إلقاء نظرة سريعة على هذا الواقع بكل معطياته، فحينما شبت الثورة واكبها ازدهار أدبى وفكرى، واستمر أعلام الأدب ورواد الفكر والثقافة يحتلون القمم العالية فى الحياة الفكرية والأدبية والثقافية طوال هذه الفترة.
وكانت الصحافة هى نافذة تلك الحياة على العالم، ففتحت لها ميادين كانت مغلقة أو مجهولة من قبل، وغذتها بموضوعات وقضايا جديدة، ووهبتها حياة ومرونة وقابلية للتعبير عن كل مكنون، سواء بالسرد المباشر أو بالإسقاطات الرمزية، فشحذت الألسنة، وأنضجت الأقلام وأتيح للأصوات أن ترتفع، وسمحت الصحافة للأقلام أن تصول وتجول.
ومن المؤكد أنه لا يمكن فهم أحداث الثورة دون دراسة الأدب المؤرخ لها بسلبياتها وإيجابياتها وأحوالها الاجتماعية. كما جسّد الأدب حلم الاستقلال والتقدم قبل النكسة التى ضربت أقلام الأدباء فى مقتل.
فأشعار صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى بعد الثورة كانت خير تعبير عن آلام وأحلام المصريين آنذاك، بالإضافة إلى روايات الثورة التى تعرفنا من خلالها على هذه الثورة، مثل كتابات «أمين يوسف غراب وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ويوسف السباعى»، وكتابات «سعدالدين وهبة ونعمان عاشور فى المسرح» التى انتقدت الثورة، وبينت ما فيها من أخطاء، وقد ارتبط الأدب بالسياسة دائمًا، وارتبط أيضًا بالحزبية أحيانًا أخرى.
وكانت الأحزاب السياسية فى مصر هى ثمرة من ثمار الصحافة، ونشأت من قلب الصحف المصرية، وانقسم الأدباء بين مؤيد ومعارض للثورة، وأصبح منهم من يعظم الثورة فى أعماله الأدبية، مثل يوسف السباعى فى رواية «رد قلبى»، ومنهم من حط من شأن الثورة ورأى أنها حركة طموحة لم تضف جديدًا، و«عباس العقاد» من رواد هذه المدرسة.
وعلى الصعيد الآخر ظهرت فى تلك الفترة أعمال حذرت من غيبة الحريات ومصادرة حرية الأفراد، كما نددت بالإجراءات التى اتكأت عليها الثورة، وفى طليعة هؤلاء أديب نوبل «نجيب محفوظ»، الذى أدان الثورة فى أعماله، مثل: «السمان والخريف وثرثرة فوق النيل واللص والكلاب»، حتى إنه صدر أمر بالقبض عليه، لولا أن تدخل الرئيس جمال عبدالناصر وأوقف أمر القبض عليه.
وكان كل ناقد أو أديب يرى الأمور من زاويته. ولكل شىء فى الحياة إيجابيات وسلبيات، لذلك صدرت مئات الكتب لتتناول ثورة يوليو بالتحليل والرصد والنقد والوقوف على أسباب قيامها ونتائجها ومميزاتها وعيوبها.
ولم يسطر النقاد كتبهم فقط لتناول الثورة، بل امتد الأمر لرؤساء مصر السابقين، الذين كتبوا شهاداتهم ومذكراتهم، ككتاب «فلسفة الثورة» و«خواطر جمال عبدالناصر»، وكتاب محمد نجيب «كنت رئيسًا لمصر». ولم تخل الساحة من كتابات المثقفين والأدباء والروائيين الذين حكوا عن الثورة ضمن أحداث رواياتهم ليمتزج الواقع الاجتماعى والإنسان بالثورة، بل تجسدت هذه الروايات على شاشات السينما أيضًا.
وقد تباينت مواقف النقاد تجاه أحداث الثورة بين مؤيد ومعارض. وبينما اتسمت مواقف بعضهم بالتحفظ تجاه الثورة فى البداية، ثم تحولت تدريجيًا إلى تأييدها، فوقف فصيل منهم، والذين كانوا على مقربة من الملك فاروق وأعوانه فى الجهة المقابلة المتحفظة والرافضة لتلك الثورة، وانعكست مواقف النقاد على صفحات الصحف فى الأيام الأولى للثورة على الوضع الصحفى اللاحق بعد نجاحها، وذلك باستمرار الصحف المؤيدة فى الصدور، بل تحول بعضها إلى معبر عن الثورة، ونظامها، ويأتى على رأس هؤلاء النقاد الذين أعلنوا عن مواقفهم بمنتهى الوضوح من الثورة «عباس العقاد»، فقد كانت الثورة وإلغاء الأحزاب بمثابة صدمة للعقاد، لأنه كان يستند فى معظم حياته السياسية إلى حزب من الأحزاب، يؤيده ويعارض خصومه. وقد انتهت الأحزاب بعد الثورة، لذلك أعلن صراحة فى بعض مقالاته عن معارضته لما قامت به الثورة من إجراءات، مثل تحديد الملكية الزراعية، وتأميم وسائل الإنتاج، ثم تراجع عن هذا الرأى فى مقال آخر بعنوان «لو أصبحت مصر اشتراكية» فى كتابه «دراسات فى المذاهب الأدبية والاجتماعية»، وأشاد وأيد الثورة عندما قال كانت ثورة نظيفة لم تُرق فيها الدماء.
النظرة الثقافية حول ثورة يوليو ممتدة وطويلة؛ لأن مصر شهدت فكرًا وأدبًا كثيرًا يحتاج إلى الكثير من التأمل والحكى.
وللحديث بقية.