يومٌ كيوم عاد أخى من تيه سيناء
أعرف هذا الشعور جيدًا.. ما زالت ذاكرتى تختزن بعض تفاصيله، عندما أغارت القوات الإسرائيلية على مصر فى الخامس من يونيو 1967.. وكنت وقتها فى العاشرة من عمرى، صبيًا صغيرًا، يقبع إلى جوار أمى التى تنوح على ابنها الذى كان مجندًا فى القوات المسلحة، ولم يعد إلى المنزل، وقد انتهت الحرب بنكسة عسكرية، خلَّفت آلامًا فى الكثير من بيوتنا المصرية، وحسرة فى حلوق الأسر، على أبناء لم يعودوا من الجبهة، رغم مرور أيام كثيرة.. قالوا وقتها إن الجمع تفرق فى صحراء سيناء، تحت وقع القصف، وحصاد مدافع الطائرات المُغيرة لجنودنا، بطلقات رشاشاتها.. منهم من ابتلعته رمال الصحراء، ومنهم من حالفته الحياة، ليبقى هائمًا على وجهه، يعانى ويلات الجوع والعطش، باحثًا عن طريق للنجاة، ودليلًا للوصول إلى ضفة قناة السويس، وكان بين هؤلاء أخى الأكبر، وعائل الأسرة الوحيد، الذى ظل يسير على غير هدى، بين دروب الصحراء، وكثبان الرمال، لا يدرى أين المفر، ولا أين وجهة النجاة؟.
خمسة وأربعون يومًا كاملة، قضاها فى دروب الصحراء، مع بعض الذين بقوا على الحياة.. منهم من لم يتحمل الواقع المرير، وفارق الحياة، ليُدفن فى الصحراء، وبقى البعض يصارع الموت، حتى قَيّض الله لهم بدويًا شهمًا، من رجالات سيناء، أعطاهم بعض ماء، وكسرات من طعام، وأشار إليهم على الطريقة الموصلة إلى الضفة الغربية من القناة، ونصحهم بالاختباء بين الكثبان نهارًا والسير إلى وجهتهم ليلًا، حتى لا تراهم طائرات العدو، التى ما زالت تبحث عن أحياء بين الجنود المصريين فتقتلهم.
وفى ليلة كان الجميع فى بيتنا نيامًا، بعد عناء البكاء نهارًا.. دقت طرقات لهفى على الباب الخارجى.. سريعة متلاحقة، أيقظت من كان نائمًا، ليفتح الباب عن شبح إنسان أغبر، قد أسود وجهه، تكاد الملابس فوق جسده تستر بقاياه الجريحة.. إنه أخى، عاد للحياة من جديد، بعد خمسة وأربعين يومًا فى تيه، أعظم من تيه بنى إسرائيل، أيام سيدنا موسى عليه السلام.. عاد ليقُص علينا بقية الحكاية، بعد مقابلة الأعرابى فى سيناء.. قال، إنهم ظلوا سائرين حفاة أشباه عراة، يختبئون بالنهار ويواصلون السير فى الليل، يؤلمهم الجوع، ويكاد يقتلهم العطش، حتى وصلوا، بعد أيام طويلة إلى شاطئ قناة السويس.. هناك، استقبلهم رجال الصليب الأحمر الدولى، ليعبر بهم إلى الضفة المقابلة من القناة، حيث الوطن، المأوى والملاذ.. وبعد توقيع الكشف الطبى عليهم، وإمدادهم بالماء والغذاء، سمح رجال قواتنا المسلحة لمن نجا، بالعودة إلى ديارهم، تطمينًا للأهالى اللهفى على غياب أبنائهم.
تذكرت ذلك، وأنا أشاهد الجنازة العسكرية الرسمية لتوديع رفات الشهيد البطل، فوزى محمد عبدالمولى أبوشوك، التى تم العثور عليها فى صحراء أرض الفيروز، بعد مرور سبعة وخمسين عامًا على حرب 1967، وكأنه يريد أن يحتفل بذكرى نصر أكتوبر وسط أهله، فى جنازة عسكرية أقامتها قواتنا المسلحة، قبل دفنه بمقابر عائلته بالإسكندرية.. بعد سبعة وخمسين عامًا، لم تفقد أسرته خلالها الأمل فى العثور عليه، داعين المولى عز وجل عودة جثمانه.. لم تترك مكانًا منذ نصف قرن إلا وبحثت فيه، حتى بعد أن تم إعلانه شهيدًا خلال عمليات الحرب، ظلت الأسرة متعلقة بالأمل فى العثور عليه، وورَّثت هذا الأمل لأجيالها، جيلًا بعد آخر على مدار خمسة عقود مضت.
يروى الحاج عبدالمولى محمد عبدالمولى أبوشوك، شقيق الشهيد الأصغر، «كان عمرى عشرين عامًا عندما فقدت شقيقى فوزى، الذى التحق بالقوات المسلحة لتأدية الخدمة العسكرية، وذهب فى بداية مدة خدمته للحرب فى اليمن، وبعد عودته من تلك الحرب، جاء فى إجازة لمدة ثمانية وعشرين يومًا، قام خلالها بعقد قرانه على فتاة من جيرانه، ثم عاد لاستكمال خدمته العسكرية، التى لم يعد منها ثانية.. انقطعت رسائله عنا، ثم تم إبلاغنا بأنه من ضمن مفقودى الحرب».. ساعتها، أقام الأهل جنازة له دون جثمان، بحضور الأسرة ووالدته رحمها الله، وبعد مرور خمسة وسبعين عامًا على فقدانه، فوجئنا بابن شقيقى محمود يقول إنه وجد صورًا للشهيد على إحدى صفحات التواصل الاجتماعى، تؤكد العثور على رفات الجثمان، وبحيازته مجموعة من الصور والمتعلقات الشخصية.
ويكمل محمد محمود محمد عبدالمولى أبوشوك، ابن شقيق الشهيد فوزى، قصة العثور على الغائب منذ سنوات طويلة.. قال، إنه فوجئ أثناء تصفحه مواقع التواصل الاجتماعى، بإحدى الصفحات التى تؤكد العثور على شهيد من شهداء حرب 67.. انتابه الفضول لمطالعة الصور، ليفاجأ بأنها صور عمه ووالده وأقاربه التى كانت بحيازة الشهيد.. توجه إلى قيادة المنطقة الشمالية العسكرية، الذين وجهونى لزيارة الأمانة العامة لوزارة الدفاع بالعباسية، ثم تم التواصل معى لإبلاغى بأن الجثمان فى مستشفى السويس العسكرى، وطلبوا أحد أشقاء الشهيد لعمل تحليل DNA، فجاء معى عمى عبدالمولى.. وبعد ما يقرب من شهر تقريبًا، تم إبلاغنا بتطابق العينة، ولا بد من استلامنا الرفات، تمهيدًا لدفنه فى مقابر العائلة، فى جنازة عسكرية تليق بالشهيد.. لم تحضرها والدته، التى كانت تتمنى أن يرقد ابنها فى قبره بسلام، وهى التى لم تعرف، أن رمال سيناء الغالية، كانت كحضن الأم، احتضنت جثمان هذا الشهيد، فى أمن وسلام، حتى عاد إلى أهله.
وفى جنازة عسكرية مهيبة، تليق ببطولته وتضحيته من أجل الوطن، شيع عدد كبير من أهالى محافظة الإسكندرية جنازة الشهيد، من مسجد سنانى بمنطقة الدخيلة غرب الإسكندرية، بحضور أسرته ووفد رسمى من وزارة الأوقاف، ليدفن فى مقابر العائلة، بعد أن تم العثور على الرفات فى شهر يوليو الماضى من قِبل إحدى المؤسسات المدنية المتواجدة بمنطقة الحسنة بوسط سيناء، وعثر على أوراقه الرسمية وبعض متعلقاته، حيث قررت الجهات المعنية فى مصر إبلاغ أسرته وتسلم متعلقات نجلها، قبل خمسة عشر يومًا، من حلول الذكرى الواحدة والخمسين لانتصار أكتوبر العظيم، الذى حقق العزة لمصر وأعاد الأرض السليبة، واقتص لشهدائنا فى الخامس من يونيو 1967، ومن تلاهم، خلال حرب الاستنزاف، التى سجلت ملاحم من البطولة والفداء.. وكأن حلول الذكرى، والعثور على رفات الشهيد فوزى محمد عبدالمولى أبوشوك، جاءا ليؤكدا أن هذه الأرض ـ سيناء ـ قد دفع فيها أبناء مصر من أرواحهم ودمائهم، ما يجعلها أمانة فى أيدى الأجيال المتعاقبة، لا يفرطون فيها، ولا يتهاونون فى حبة من رمالها، لتبقى صخرة صماء تتكسر عليها أحلام كل طامع فيها، واهم بإمكانية احتلال أراضيها.
■■ وبعد..
هى أسطورة المكان، وملحمة الشعب والجيش، وحلم وطن يتحقق بسواعد أبنائها، وعلى أرضها تتعاقب المحن، وتتوالى التهديدات، وتتصاعد التحديات.. ويومًا بعد يوم، تثبت العسكرية المصرية قدرتها على صنع المعجزات.. هى سيناء التى تجلى الله، سبحانه وتعالى، لنبيه موسى على أرضها، وسار فوق ترابها الأنبياء، وهى عبق التاريخ ومطمع الغزاة والمحتلين، على مر العصور.
لقد نقش تاريخنا القديم على جدران المعابد، ملاحم كبرى ومعارك وبطولات، كان من أبرزها معركة قادش 1274 قبل الميلاد، ومعركة حطين 1187، ومعركة عين جالوت 1260، والعدوان الثلاثى على مصر عام 1956.. وسطر تاريخنا الحديث بحروف من نور، العبور العظيم يوم السادس من أكتوبر 1973، بعقيدة راسخة فى قلب شعب وجيش لا يقبل التنازل ولا يرضى بالمساومة.. على أرضها تحققت المعجزات، وتحرر التراب الوطنى من الاحتلال الإسرائيلى، وبين الممكن والمستحيل، كان الحرب والسلام.. ثم تعود سيناء لتخوض اختبارًا صعبًا، وغير مسبوق حين توافد إليها، إرهابيون وتكفيريون، من كل حدب وصوب، يبتغون فصلها عن الوطن، وكانت المُستهدف الأول بأشرس وأخطر موجة إرهاب مرت على مصر.. ولكن تأبى أرض سيناء إلا أن تعيد تاريخها الحافل بالبطولات والانتصارات والتضحيات، عبر مواجهة التحديات الأمنية والقضاء على الإرهاب، التى تواكبت مع مشروعات تنموية عملاقة فى جميع المجالات، ولتبقى سيناء حلمًا يتحقق، وملحمة شعب وجيش لا يعرف المستحيل.. ولعل فى ذكرى انتصار أكتوبر التى على الأبواب، دروسًا مستفادة، نستلهمها ونحن نخوض معركة البناء والتنمية، وبناء القوى الشاملة التى تحقق الردع، للدفاع عن مقدرات الدولة المصرية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.